د. نادية هناوي

ليست قليلة هي دواوين الشاعر بلند الحيدري( 1926 ـ 1996) كما أن لا خلاف في كونه أحد رواد حركة الشعر الحر، ومع ذلك يبدو الضوء النقدي المسلط على شعره خافتا، وأحيانا غير ملاحظ إلى حد كبير. والمفارقة في هذا الأمر تعود إلى أن تجربة الحيدري الشعرية اتسمت بالثبوت وعدم التحول، على عكس تجارب زملائه الرواد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي الذين ما بقوا ثابتين في انطلاقاتهم التجديدية، بل تطوروا تبعًا لطبيعة كل واحد منهم، وما واجهه من منعطفات حياتية مدًا وجزرًا، تجاذبًا وتضادًا.
هذا ما أدى إلى أن تتعدد سبلهم الفنية، وتتباين اتجاهاتهم الموضوعية، ومن ثم تنوعت نتاجاتهم الشعرية في كتابة قصيدة التفعيلة، فانتقلوا من الرومانسية إلى الواقعية والرمزية. وتفننوا في استدعاء الشخصيات التراثية واستعمال الرموز وتوظيف المرايا والأساطير والأقنعة وغيرها.
وكان مقدرًا لهذا الشاعر أن يكون أكثر مجازفة، فيغامر كما غامر زملاؤه الرواد في ارتياد آفاق غير مسبوقة في كتابة الشعر الحر لاسيما أنَّ شعرية الحيدري ظلت على قوتها إلى آخر حياته غير أنه استمر يداوم على الرومانسية نهجًا، والغنائية المشوبة بالدرامية أسلوبًا، متخذًا من الفناء موضوعا، كان هو الأوحد في غالبية شعره. وبسبب ذلك تسمّرت تجربة الحيدري بما يزيد عن الحدِّ، ويغالي في المدِّ.
لقد ظل بلند الحيدري في كتابة الشعر الحر حريصًا فنيا على اتباع نهج الشعراء الرومانسيين الغربيين مثل كيتس وبايرون وشيلي وبليك، وكذلك تأثر بنهج الشعراء الرومانسيين العرب مثل الياس أبو شبكة وعمر أبو ريشة ومحمود علي طه والشابي، فضلا عن شعراء الديوان وأبولو والمهجر. وكان عبد المعطي الهمشري وشبلي الملاط والأخطل الصغير وإبراهيم ناجي هم قدوته في كتابة القصيدة الوجدانية.
أما الشاعر جميل صدقي الزهاوي فكان له تأثيره الكبير في بلند وزملائه الرواد لا من ناحية تجديده الفني في كتابة الشعر المرسل حسب، بل أيضا من ناحية نظم المطولات الشعرية. ومعروف أن رواد حركة الشعر الحر كانوا مولعين منذ بواكيرهم بكتابة المطولات، لأنهم وجدوا فيها ما يلبي طموحهم في التحرر من صرامة نظام القريض. وهذا ما يجعل حركة الشعر الحر بمثابة الاختمار الطبيعي لما كان الزهاوي قد جرَّب السير فيه شعريا أبان الربع الأول من القرن العشرين.
ولقد كان بلند الحيدري أكثر الرواد نزوعًا نحو الرومانسية في التعبير عن الذات الفردية تعبيرا شابه الغموض والتعتيم. وارتهنت شعريته ارتهانا وجوديا بهذا النهج فلم يحد عنه البتة بدءا من ديوان (خفقة الطين) عام 1946.
وكان لاتسام شعر الحيدري بالروح السوداوية أن جعله ذا فلسفة خاصة في رؤية العالم والحياة والوجود، فكان كثير الحزن والتشاؤم، يشعر بالإحباط المرير والخيبة، ولا يرى في المستقبل أي أمل. واتضحت أبعاد هذه الفلسفة في ديوانه (أغاني المدينة الميتة) 1950 ومطولته( حوار عبر الأبعاد الثلاثة) 1956 ثم دواوينه اللاحقة( خطوات في الغربة) و(رحلة الحروف الصفر) 1968 و(الحارس المتعب) و(آخر الدرب). وما من قصيدة لبلند الحيدري إلا وهي محملة برومانسية سوداوية، ينفِّس من خلالها عن أحزانه ويبث شجونه، معلنا نفوره من الواقع وتمرده عليه واشمئزازه من الحاضر المأساوي وغربته عن المجتمع وعزلته عن الآخرين (وغدا/ سأرجع للفناء كأنني/ ما جئت إلا كي أكون فناء/ ولأشتري كفنا أضم بجوفه/ أدوار عمر قد مضين هباء/ ماذا جنيت لأحمل النير الثقيل؟ / تيمنا ورجاء)
وكان لمداومته على هذا المسلك أن جعل شعره ذا وتيرة واحدة، فلم يحظَ بما حظي به شعر زملائه الرواد من عناية النقاد واهتمام الدارسين هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يستطع أن يثبت حضوره أمام التجارب الشعرية اللاحقة المتميزة بكتابة قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر والتي كانت من القوة ما جعلها تغطي على شعر الحيدري في حين ظلت قصائد السياب والملائكة والبياتي شامخة أمام هؤلاء الشعراء على ما لهم من تميز واحتراف سواء كانوا من الذين جايلوا الرواد مثل سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ومحمود البريكان وكاظم جواد وحسين مردان وياسين طه حافظ وحميد سعيد وصلاح فائق وعبد الرحمن طهمازي وفاضل العزاوي أو الذين جاءوا بعدهم مثل كاظم الحجاج ورعد عبد القادر وعبد الزهرة زكي وموفق محمد وطالب عبد العزيز وغيرهم.
وعلى الرغم من ذلك، فإن النقد الأدبي لم يجر على بلند الحيدري ولم يتغافل شعره، بل عدَّه كبار النقاد العراقيين والعرب رابع رواد حركة الشعر الحر بيد أن حصة الأسد في كثير من النقود كانت موجهة صوب مسألة الريادة في كتابة الشعر الحر. وأُعطيت إليها الأولوية على حساب مسائل أُخر تتعلق بفنية الحيدري في كتابة قصيدة التفعيلة، مما كان قد برع في توظيفها وتوغل عميقا داخلها. ومن ذلك مثلا جمعه بين شفافية الرومانسية وغنائيتها من جانب والنزعة السوداوية الناجمة عن التعمق في الأفكار الفلسفية من جانب آخر. ومن المسائل أيضا توجهه نحو نظم المطولة الشعرية التي يأنف غالبية الشعراء من كتابتها ولا يغامرون في الخوض فيها سوى أولئك الذين يمتلكون فلسفة خاصة في الحياة، ومن هؤلاء الزهاوي الذي كتب عدة مطولات شعرية، فكشف فيها عن طول باعه في كتابة الشعر المرسل.
وما من ريب فيه أن شعورا ممضا بالغبن والإجحاف لازم بلند الحيدري وظل يرافقه طوال حياته. وكان لتألمه من مجافاة النقد العراقي لشعره أن دفعه إلى أن يؤلف وهو في العقد السادس من عمره كتاب (مداخل إلى الشعر العراقي الحديث) 1987. وأهداه إلى الشعراء (الذين كانوا معنا في هذه المرحلة وأكن لهم جهدهم المتميز بخصائصهم. إلى محمود البريكان وأكرم الوتري ورشيد ياسين و( كل الذين لم تنصفهم ذاكرتنا الهرمة) محاولا بذلك تدارك ما فاته حين كانت حركة الشعر الحر ما زالت فتية وتحتاج إلى من يضع تنظيراته النقدية فيها. وهو ما فعلته نازك الملائكة دون سواها من الرواد حين كتبت بيانها الشعري في مقدمة ديوان( شظايا ورماد) وحين أنجزت كتابها (قضايا الشعر المعاصر).
لقد استعرض الحيدري في القسم الأول من كتابه تاريخ الصراع بين الشعراء المجددين والمحافظين، وعدَّ قصيدة الموشح( أبرز شكل تجديدي في عصور الشعر العربي.) واعتد الاعتداد كله بتجربة معلمه جميل صدقي الزهاوي في نبذ القافية، وأكد طوابع الزهاوي الفكرية في الحض (على السفور ومحاربة المعتقدات الباطلة والخرافات) كما اعتد بلند الحيدري بدعوة خليل مطران إلى الوحدة الموضوعية، وما وضعه المهجريون من مفاهيم جديدة للشعر، أضافوا من خلالها إلى تجاربهم أبعادا نفسية غنية، نعتها (الدكتور محمد مندور بالشعر المهموس لشدة تركيزهم على الايحاء بشفافية عن أعماق الذات الإنسانية وموقفها من القضايا البشرية الرئيسة) وقد ساهمت هذه العوامل الفنية إلى جانب المناخ السياسي والفكري والاجتماعي الذي خلّفته نكبة 1948 في ولادة ما سماه بلند الحيدري “التيار الجديد” ويعني به حركة الشعر الحر.
وتوجه الحيدري بعد هذا المدخل التاريخي للمقدمات المنطقية التي ساهمت في قيام هذه الحركة، إلى تقديم تصوراته النقدية حولها، مسقطا من خلالها انطباعاته الذاتية ورؤاه الشعرية على زملائه الرواد الثلاثة، وكالآتي:
- إن الحركة وسَّعت النزعة الفردية في البحث عن الذات وبطابع سوداوي، إذ (لم يكن من الهين على هؤلاء الشعراء من جيلنا أن يرصد هذا الجو المتأزم من دون أن ينتابه رعب رومانسي).
- إن بين الشعراء الرواد قاسما مشتركا هو المزاوجة ما بين حزنهم الرومانسي الصغير وبين سوداوية الفكر الأوروبي المنعكسة على واقع مأساوي حقيقي.
- إن الخروج على شكلية البيت الشعري وانشاء القصيدة النثرية هو ما استوعبه ( الشعراء الجدد واطلاعهم على نتاج الفكر الأوروبي كان الأساس الذي قامت عليه التجربة الشعرية الحديثة في العراق).
- إن أهم (ما قدَّمه شعراء الريادة هو أنهم أدركوا أن البعد الزماني كالبعد المكاني، وأن أصالتهم تنبع من حيث يجب أن يكونوا، وفي المسافة الدقيقة التي لا توقعهم في ربقة التراث ولا في ربقة المعاصرة الأوروبية بشكل تقليدي.)
إن هذه التصورات وغيرها مما تضمنه كتاب( مداخل إلى الشعر العراقي الحديث) هي بمثابة بيان نقدي؛ فيه وضع الحيدري من الآراء ما يساعد في التعويض عن حالة انحسار النقاد عن شعره، وفي الآن نفسه ردَّ على مجافاتهم له. وما يجعلنا نسم هذا الكتاب بالبيان النقدي أن بلند كان حريصا على ذكر زملائه الرواد الثلاثة عند كل موضع وموقف، تارة بالدفاع عنهم ضد من عدَّهم صدى لاليوت واديث سيتول وناظم حكمت والرومانسيين الانكليز وتارة أخرى بالبحث عما يؤكد أن دورهم في حركة الشعر الحر كان يتمثل في خرق نظام العروض الخليلي في وقت كان (الشعراء أمينين لستة عشر بحرا، ما خرجوا عنها مطلقا، ولا تجرأ أحد منهم على أن لا يلزم قصيدته بغير موازين الخليل بن أحمد الفراهيدي والتي استنبط قواعدها مما ورثه العرب من قصائد ومقطوعات وأبيات يتيمة. ولا تجاوزت محاولة من محاولات ممن اتسموا بالتجديد في عصور الشعر القديمة الأسلوب القائم على وحدة البيت).
أكد بلند أيضا أن عند الرواد التقت مفاهيم محددة للشعر الجديد (فأعقب صدور خفقة الطين ديوان عاشقة الليل لنازك الملائكة في أوائل عام 1947 تلاه ديوان أزهار ذابلة للسياب ضمن نزوع رومانسي صارخ)
وكثيرة هي المواضع التي فيها يتحدث بلند الحيدري عن شعره، ومن ذلك وصفه لنهجه في الشعر بأنه عبثي وبشكل مقصود ومتعمد. يتضح بشكل خاص حين عدَّ نفسه الصخرة التي حملها سيزيف، و(إذا كان البيركامو قد حاول نسيان صخرة سيزيف لينتصر على مكرها وعبثها، فان بلند قد أدرك نفسه في الشخص الفاعل الذي وعى مأساته فتجاوزها بأن أسقط دوره على الصخرة، فهو يعرف ماذا يريد. أما الصخرة فهي التي تجهل نزوعه العبثي. هكذا كان الشكل الجديد الذي جاء به الشعراء الرواد يستبطن وعيهم بموقعهم من أرضهم ومن العالم)
ومن أهم النقاد الذين عنوا بتجربة الحيدري محسن اطيمش وخالدة سعيد وعبد الجبار عباس الذي نشر عام 1966 دراسة مستفيضة بعنوان (بلند الحيدري) في العدد الثالث من مجلة الآداب البيروتية، وفيها تناول بالتحليل والتفسير ثلاثة دواوين هي خفقة الطين 1946 وأغاني المدينة الميتة 1956 وجئتم مع الفجر 1958. وفي الدراسة محصلات موضوعية مهمة، منها أن فلسفية بلند اكسبته عمقا وأصالة وأن (خفقة الطين) شقيق ديوان( أفاعي الفردوس) لالياس ابو شبكة، وأن عالم بلند ميت وأدبه متشائم مؤكدا (أن الشاعر في خفقة الطين كان أقرب إلى الرومانسية الذي كان يطغى على الحياة الأدبية لكن جيل نازك والسياب والبياتي وبلند ادركوا الرومانسية حين بدأت بالانحسار على اثر الانفتاح بعد الحرب العالمية الثانية على ملامح وواقع جديد وتيارات فكرية وفنية جديدة. ولا عجب اذن أن يكون بلند في ديوانه الاول رومانسيا يرتع مع حبيبته على شواطئ الحلم، ويرى الحياة أطياف حب ينشر الهوى دنياه عليها.)
ومن آراء عبد الجبار عباس الجديرة بالمناقشة أن ديوان أغاني المدينة الميتة يمثل (مرحلة لم يكن يضحك فيها ضحكا نابعا من القلب إلا الذين لا يسألون لم يضحكون من الذين هم من الزوائد والرواسب. وفيه ودَّع الشاعر المراهقة والرومانسية إلى مرحلة النضج والانفتاح على روح العصر ومصارعة اللاوجود). ولا غبار على الجملة الأولى من هذا الرأي غير أن في الجملة الثانية التباسا، ذلك أن الحيدري ما ترك الرومانسية بتاتًا، بل هو أوغل في نزوعه الرومانسي أكثر، وصار يمزج معه موقفه الفلسفي من الوجود، فغدت قصائده صورة طبق الأصل لذاته التواقة إلى العزلة والرفض والاشمئزاز والتمرد والعبث واللاجدوى.
وهذا ينطبق على سائر دواوين الشاعر باستثناء ديوان (جئتم مع الفجر) ويعني بهم ثوار 14 تموز 1958 وفيه وجد الناقد عبد الجبار عباس أن الشاعر انتقل إلى الالتزام الصريح بقضايا الآخرين لكننا نرى أن هذا الالتزام كان مجرد أمر طارئ، سرعان ما تلاشى في خضم انغماس بلند في الرومانسية السوداوية وبكل ما فيها من تشاؤم وحزن، ظلا يبسطان وجودهما على شعره برمته.
وكان الدكتور شجاع العاني قد أشار في كتابه( من أصداء الماضي) إلى أن زمالة دراسية جمعته مع فتى النقد عبد الجبار عباس، فانتظما عام 1959 في المرحلة الاولى من قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وسكنا في أحد أزقة محلة جديد حسن باشا قرب جامع الحيدر خانة. وكان علي جواد الطاهر أستاذهما، فأنجز كل واحد منهما بحثا في النقد؛ فاختار عبد الجبار الكتابة عن ديوان أغاني المدينة الميتة وقصائد أخرى للشاعر بلند الحيدري، واختار الدكتور العاني قصة الأيام المضيئة لشاكر جابر. وتحول بحث عبد الجبار إلى مقدمة لديوان ( أغاني المدينة الميتة) في حين أخذ بحث د. شجاع طريقه إلى رسالة ماجستير هي (المرأة في القصة العراقية) ومما أكده د. شجاع أن عبد الجبار عباس تأثر بالديوان (وأدت قراءته إلى أن يترك الكلية مدة عام لان التأثير كان سلبيا وصار لديه إحساس بالعبث واللامعنى).
ومن المهم الإشارة إلى أن ثمة قاسمين فنيين مشتركين يجمعان بين بلند ونازك والسياب والبياتي، فأما القاسم الأول فيتمثل في جعلهم القصيدة تنمو نموا عضويا وبوحدة موضوعية ونهج قصصي، يمتزج فيه الإيقاع النثري بالإيقاع الشعري وتتداخل القوافي وتتكرر تفعيلات بحور الرمل والخبب والمتقارب والكامل والرجز.
وأما القاسم المشترك الآخر، فأثير ويتمثل في كتابة كل من نازك والسياب وبلند المطولات وهم في مقتبل تجاربهم الشعرية، فكتب السياب عام 1943 مطولة من ألف بيت، لكنها ضاعت ثم كتب مطولته (الروح والجسد). وباشرت نازك الملائكة منذ العام 1945 بكتابة مطولتها (مأساة الحياة وأغنية الإنسان) ولم تنتهِ منها إلا بعد عشرين عاما.