نورس عادل هادي
..هل ثمة مسرح يمكنه أستئصال فكرة الحرب من قاموس العسكر ؟ هل ثمة صورة شعرية بإمكانها الكشف المبكر عن حجم الفظاعة التي تخلفها الحروب في ثنايا القلب؟ هل ثمة من يُقنع جنرالاتها بالعدول عن هذا العته الذي جعل المنافي تستشري بأسماء الناس وتمتد بأعمارهم الى حيث لم يتصور الانسان يوماً أنه قد يصل؟ هل ثمة طقوس مسرحية سديمية يمكنها أن تستدرك ضياع التواريخ المقدسة، أن توقف السرفات الشرهة عن غرس حديدها الصدئ بلحم ايامنا كما تغرس حوافر فرس مشتعلة وجه مقاتل مهزوم؟ هل ثمة أسئلة مسرحية يمكن بوساطتها استعادة المدينة من قبضة الكراهية، طامة العصر ووحشه التكنولوجي الذي يحيل في طرفة حرب ما تبقى من ذكريات قاطنيها الى شواهد من حجر؟ هل ثمة طريقة لإيقاف ماكنات الحرب وتصدير الخراب تلك الماكنات المصممة لمحو الايام وإعادة تدويرها على طريقة مصانع ما بعد الحداثة.؟. هل ثمة خطاب مسرحي يمكنه اطلاق مفاهيم برية لم تدجن بعد ولم يعاد تدويرها كقطع البلاستيك التي تفقد قيمتها مع كل شكل تتخذه؟هل ثمة معادلات مسرحية يمكنها ايقاظ شعوب الارض الثالثة من سبات استهلاكهم اليومي للحياة، فثمة فقد كبير تعانيه هذه الشعوب فقد لانتصاب القامة وفقد لاكتشاف النار وفقد لإحياء تواريخهم الحاضرة.. فقد ضيّع آخر ما تبقى من عطايا (بروميثيوس)، فبأي لغة من عوالم متخيلة يمكن لنص مسرحي ان يقف بمسائلاته أمام قراء اعتادوا التعايش مع انكسار الضوء في عيونهم كما اعتادوا التعايش مع تعاويذ يومياتهم عبر درء شرورها بقرابين دموية، فوحشية عوالمهم فاقت حدود التخييل الالهي في صناعة أقدار جحيمية اقسى من جهنم نفسها؟ فكيف يمكن أن يسائل المخرج المعاصر مدن الديستوبيا دون أن يشعل باروداً بأصابعه المجردة وهو يتعاطى مع ما تحمل وقائع هذه المدن من حروب لا تريد ان تنتهي بل ويدرك تماماً مرارة البوح الصريح وحدود قدرته على بصق كل تلك المرارة التي تجرع في وجه نخاسي هذه المدن من مثقفين اعتادوا بيع مواهبهم في اسواق النفعيّة والسلطة، هنا حيث لا طريقة للخلاص من رتابة ما يقدم على خشبات المسرح /الحلم تُمكّن المخرج المعاصر من مجابهة ما يحدث على أرض الواقع غير أن يحرّض ممثليه على ارتكاب ابشع ما باستطاعتهم من جرائم تطال شخصياتهم الدرامية السابقة عبر تحويل البروفا الى طقس وثني تقدم فيه النظم العلامية الممنهجة كأضحية حيوانية فلا أشتراطات ادائية تزيح سطوة مشاهدات حز الرقاب وفرجة تقطيع الاوصال البشرية المنتشرة (كترندات) عالية المشاهدة على مواقع التصفح اليومي، هنا حيث الِف الجمهور غواية الاداء التمثيلي واستدل على لعبة الايهام المسرحي ولم تعد تستهويه لحظات من التوهج المُصَطَنع على طريقة تفعيل الاجهزة اللوحية لحيواتها عبر تنشيطها بالتحديث المستمر، لم يعد بمقدور من يريد مسرحاً إلا أن يلتحم بالضوء حد اشتعال روحه كفراش الليل الحالم.. وطبقاً لهذا النزوع وهذه المفازات من الفهم يطالعنا المخرج (جواد الاسدي) بأسئلته الجارحة لنا كمهتمين بالمسرح وللمسؤولين القابعين خلف زيف وهشاشة ما تحولت اليه الافضية العمومية في مجتمعاتنا وفي مدننا، يطالعنا برؤاه عبر عرض مسرحي ينذر بيباس العالم المحيط كما ينذر بتأكل ارواحنا كحدائق خريفية باردة في ظل عالم يتسم بالموت عن بُعد، هنا حيث عاش المسرح حد اعتياده اليومي رؤية ملاك الموت وهو يستأنف عمله المصاحب لقذائف الفسفور واليورانيم المذيب والقنابل العنقودية التي تصهر السقوف الكونكريتية بأجساد الاولاد وتسحق جماجمهم اللينة دون أن تستوقف بشاعة الحدث وجلله مسرحيو العالم الذين يستأنفون بياناتهم المنددة كل مفتتح مهرجان، يطالعنا (الاسدي) عن مدن شبحية غائرة في العتمة مدن تدور في لعنة من التكرارات الغير منتهية هنا حيث يسيل الزمن كما تنبه السرياليون ذات مرة فقد تأكل الذاكرة نفسها وتُستَنزَف في خلاف الهويات واشكاليات الموقف والمسرح التعبوي والجمهور الباحث عن الخبز في عروض لا تكترث بجوع العامة… هنا.. بعيداً عن قوانين الضبط الاممي نُسِيت هذه المدن كما تنسى أسيرة من اقلية دينية في معسكر للاغتصاب الجماعي، يطالعنا (الاسدي) ليس بما يراه فيها بل بما هي ذاهبة إليه تلك المدن إن لم تحدث المعجزة إن تعودنا لغة الصمت إن اعتدنا العيش غير مكترثين بيباس الشجر إن تركنا وحوش الكونكريت المستورد تزحف على صدر التاريخ العضوي للمقاهي ودور السينما وخشبات المسارح، ففي جملة متفوقة على تماهر الاسئلة وحنكة صياغتها يُعشِّق الملفوظ النصي لخطاب العرض مقولة تصنع صدىً فارقاً طوال زمن العرض ل(محمود درويش) “لماذا تركت الحصان وحيداً ” على لسان أحدى الشخصيات لتماثل نذيراً اخيراً يخبرنا أن بيوتنا ومدننا قد يصيبها اليباس وتموت إن خلت من مؤنسيها في مقاربة تضع المدينة/البيت مقابل الروح وتضع الفنون والآداب والمسرح في مقابل ذلك المؤنس الذي ينجيها من الوحشة, وفي صعيد آخر ليس ببعيد عن هذه المقاربة يعلق الناقد(حاتم التليلي) سؤاله أمام انظارنا كما تعلق أُضحية على باب مسجد متسائلاً ” كيف نعيد أستنبات وجودنا المسرحي في مدن غير مؤهلة لذلك “؟ يبدو ان من الممكن لمن لم يتبضع بعد من اسواق نخاستنا الثقافية العربية أن يتأمل (روعة) ونقول روعة بما تحتمل الكلمة من (روع) هذا السؤال ويستوقف حقيقته كما تستوقف لوحة العشاء الاخير كاهن أخذ الشك يدب بقلبه حيث تأخر الخلاص أكثر مما يطيق.. يطالعنا (الاسدي) بعرض مسرحية (سيرك) (وهو عمل من إنتاج دائرة السينما والمسرح/ الفرقة الوطنية للتمثيل، تأليف وإخراج (جواد الاسدي)، تمثيل (شذى سالم، أحمد شرجي، علاء قحطان) والمجموعة (حازم غازي، حسن علي خليل، يوسف صادق، محمد عامر، محمد كامل) إضاءة (عباس قاسم) تصميم الأزياء (زياد العذاري) التأليف الموسيقي (رياض كاظم) والذي عرض في بناية منتدى المسرح التجريبي في بغداد مساء الاثنين الموافق 28/10/2024 ) بذات السياق من البوح والصدام والتصدي المعلن، ذلك إن ما تحمله أسئلة العرض المسرحي الذي يولد بين يديه يمثل في أدنا خصائصه ولادة غير متوقعة انها الولادة من الخاصرة وهي إحدى أهم ما يميز هذا المسرحي الكبير الذي يجعلك ترتجي رؤى مسرحية بشرية خالصة لا تركن الى اقتصاص مشاهدات سابقة أو توائم ما جرى أستهلاكه من متصورات عبّرت عنها كاميرات السينما او شاشات التصفح اللوحي، ففي مسرحه لا تنبئك فرضية المكان بما هو قادم اليك ولا تفتتح الاحداث الاولية طرقاً لتتماهر عليها توقعات من الِف المسرح وحضر عروضه مراراً، هنا عند متن خطاب العرض المذكور تتساوى التموضعات وتتحقق صفرية معنى ما قبل الحدث حتى يأذن الممثل باتصالك أو حتى تتجلى زوايا الحكاية عن مضامينها الفكرية والجمالية، فالممثل ركيزة ذلك التجلي وبوابته السحرية وملاذ العرض أو هكذا يصفه المخرج قائلاً” الممثل هو الملاذ والمخلّص الحقيقي للعرض المسرحي روحاً وجسداً وشغف يشبه الصلاة للمقدس الذي يسكننا ..” وبذلك الاتيان فأن أي قراءة نقدية لما يكتنفه العرض المسرحي(سيرك) الذي نحن بصدده لابد لها أن تطالع العقد الذي تبناه المخرج المذكور في أنشائية خطابه التي طالما تمركزت حول الممثل بصفته نصاً وحول النص بوصفه جسداً يتمثل لحم وعَرَق الممثل فمنذ تشكلات البروفا وتمارينها يعمد المخرج على استزراع سرديات جذعية ما بين الممثل والنص ومن ثم فأن كل العناصر الاخرى المكونة لخطاب العرض تولد كأجنة مؤجلة ليس بمقدورها الاكتمال والبوح بل ليس بمقدورها لفظ المعنى دون أن تغذيها مشيمة الممثل وحمولات الشخصية الدرامية عبر تعشيق الملفوظ النصي بأداء يعادل القيمة ذاتها وهو ما حصل فعلاً لحظة الكشف الاولى عن طاولة وكرسيين وجدران جانبية مائلة وهي عناصر بصرية الفناها شكلاً في عروض (الاسدي) الاخيرة بيد ان إضافته لجذوع من الاشجار التي بدا عليها الموت واليباس أربك محاولات انجرار الذاكرة نحو فضاء سابق فأغصانها عارية دون ما ورق او خضرة تنذر بفضاء منقطع بدا انه ميت وموحش لبرهة من الزمن لا يعطي دالة واضحة ولا يمد لمتلقي خيطاً يوصله بديباجة تصلح ان تمهد لحكاية قادمة ثم ينقطع فجأة ذلك التعاطي في لحظة تشبه الافاقة يتعرض لها الفضاء المكاني كله دفعة واحدة فيسترد حضوره الحي عند تخوم حوار الشخصيات التي تفتتح حكاية العرض بمشهد أولي يشي بسردية تاريخية وعلاقات لحدث سابق يستدرج المتلقي نحو اسباب عدم رد المتصل بها (كميلة) ” الو … كميلة ..الو كميلة.. ” الشخصية المبهمة والتي نكتشف بعد حين من الاحداث أنها زوجة المتصل (ريمون) الذي يلتقي بصديقه الكاتب والروائي المثقف (لبيد) والذي يجالسه على الطاولة المذكورة في مشهد يفتتح فيه المتن الحكائي حيث يأخذ هذا المتن مسارات متعالقة بعضها ببعض في نسج العلاقة ما بين الثلاثة وهو نص كتبه (الاسدي) يحكي عن شخصيات تعيش في مدينة خاضعة لحكم العسكر مدينة زحفت اليها مدافع الحرب ونيران طائراتها وأكلت تلك النار اجزاء كبيرة من معالمها فاحترقت بنايات المسرح واستبدلت المكتبات ودور العرض بصالات لعب القمار والحانات القذرة التي أليفت البساطيل القادمة من خارج المدينة ولم يتبقى إلا بناية واحد لفرقة من فرق السيرك – في اشارة لأدنا مستويات الفواعل الفنية المتبقة لهذه المدينة – حيث يشترك كل من ممثلة عظيمة تدعى(كميلة) وزوجها المضطرب الذي ألمّت به العديد من الامراض النفسية والاجتماعية في ادارة هذا الكيان الاخير، يرعى هذان الزوجان بعض الكلاب المدربة على الاسهام في المشاهد التمثيلية وأهمها الكلب المشهور بذكائه ودربته (دودن) – هذا الكلب لم يتجسد حضوره المادي على المسرح بمشاهد بصرية حيث أقتصر وجوده على المتصور الحسي والمسموع فقط – فضلاً عن شخصية (لبيد) صديق العائلة الكاتب والروائي المثقف الذي يلتقيه (ريمون) مصادفة في حديقة عند اطراف المدينة – وهو ما شغلته الفرضية المكانية لبيئة العرض إذ استولت هذه الفرضية على كامل الباحة الداخلية (لمنتدى المسرح التجريبي في بغداد) واعيد تكوينه ليشكل بيئة حاضنة لكل احداث العرض – بالاضافة الى شخصية (الضابط) الذي مثلت سلطة قامعة ومتحكمة بفضاء المدينة على الرغم من ابقاء هذه الشخصية خارج التمثل المادي أيضاً طيلة زمن العرض مع رفد تأثيرها لمسارات الاحداث وافعال الشخصيات.. تتواتر الاحداث بعد انزعاج (الضابط) من الكلب وذعره منه فيقتل صاحب السيرك(ريمون) الكلب(دودن) خوفا من غضب الضابط، لتثور الزوجة/الممثلة القديرة(كميلة) على فعلة القتل والتمادي في الدونية والجبن التي يمارسها الزوج(ريمون) متأثرة أيضاً باحتراق آخر مسارح المدينة فتهرب لتصادف صديق العائلة الكاتب(لبيد) إذ يتكشف لنا انهما كانا معجبين ببعضهما لكنهما لم يفصحا عن ذلك طوال سنين ومن ثم تتكشف علّة لدن الكاتب/المثقف(لبيد) ممثله بفقده لذكورته الامر الذي جعل منه شخصية انطوائية لم تعد تقوى مواجهة شيء اختارت الانهزام من الواقع وعيش بطولاتها على صفحات القصص المتخيلة، وفي احتدام كل هذه المسارات الدرامية ما بين الشخصيات تتصاعد الاحداث والمواقف في جملة من التناصات النافذة من ما هو درامي متخيل الى ما هو واقع معاش لم يزل حاضراً شاخصاً امامنا وهي الطريقة التي اعتمدها صناع العرض في انتاج سردية لمتن حكائي يمكنه من مماحكة ما هو كائن فعلاً.. فضلاً عن استشراف ما سيكون، اذ يكشف العرض عن العديد من المسارات البينية التي تستدرج المتلقي نحو ما يحدث داخل بنية المجتمعات القابعة تحت نير الحروب والتخلف والادلجة العُصابية التي تمارس عليها من قبل السلطة التي لم تعد تكترث لقيمة الرمز الاجتماعي بيد ان المخرج اعتمد – كما اشرنا سابقاً – على زراعة دعامات ينتجها الاداء التمثيلي كي ينهض على كتفها الخطاب الجمالي للعرض كتقنية إخراجية وهو ما حدث فعلاً اذ عمل كل ممثلا على تسيير منظومته الادائية للشخصية الموكلة إليه بمعزل عن الشخصيات الاخرى وكأن المخرج عمل على تزويد ممثليه بخامات مختلفة واشتراطات فارقة لتمكنهم من خلق شخصيات جديدة دون إعادة تجميعها، وقد بدا ذلك الاتيان واضحاً منذ اللحظة التي ظهرت بها شخصية(ريمون) التي يقدمها الممثل (علاء قحطان) بجودة مختلفة أعطت لهذه الشخصية القدرة على امتلاك فواعل الانقضاض والهيمنة على البعد النفسي لفضاء الحدث وفرضيته المكانية عبر مفازات الشخصية العُصابية التي تُنتج مشاعر الخوف وتبثها ضمن حيز التلقي أنّا شاءت كما تمتلك القدرة على تصفير ذلك المعنى واعادتها عند حدود الشخصية العقلانية المتزنة في موضع آخر ، كما يتضح لنا ذلك الاجتهاد في زراعة اجنّة هذه الشخصية بشكل مدروس في رحم فرضيات علم النفس ضمن جنبته المتعلقة (بمركب النقص) الذي أشار إليه (ألفريد ادلر) إذ تبقي التجربة الشخصية هذه العلة كامنة غير مرئية إلا في لحظات الانفلات العاطفي او في مواقف تعيد للشخصية المعتلة مقاربات الحادثة في الذهن فتدفعها للهيجان وفقدان السيطرة، وهو ما نجح الممثل(قحطان) في تحقيقه عبر تصديره لمجموعة من الافعال التي اخذت الشخصية نحو نموها التدريجي والتصاعدي المنساق بعناية فائقة بدءً بشحذ الجو العام وشد إيقاعه عبر الطرق على سطح الطاولة وليس انتهاء بتقمص الافعال الحيوانية التي تمارسها الشخصية بدافع المزاح، حيث شكلت هذه الشخصية المركبة سلوكاً مختلفاً عن الشخصيات الدرامية المستهلكة التي تتسم بمرض نفسي محدد على الرغم من كثرة وتنوع ووفرة هذا النوع من الشخصيات في التجربة المسرحية العراقية على الاقل، فضلاً عن مهارة الاداء المتنوع الذي فرضته الشخصية المذكورة بتعاطيها المختلف مع كل الشخصيات الاخرى التي اشتبكت معها ولا سيما الالتحام الذي احدثه مشهد قتل الكلب(دودن) ومحاولة الكلاب الاخرى الانتقام من القاتل- وتجدر الاشارة الى اجتهاد الممثلين لهذه( المجموعة ) التي قدمت هذا المشهد حيث استطاعوا ان يتلبسوا سلوكاً حيوانياً مقنعاً في أقل من دقائق دون اصناع او تكلف تقني – الامر الذي احدث معه هذا المشهد بنية فارقة في الجودة والانفتاح التأويلي على العديد من المعاني إذ حفل المسرح العالمي بمشاهد الطعن والقتل لكنه لم يشهدنا لحظة متبادلة ما بين حيوانية الانسان وانسانية الحيوان وكانه مشهد تنتهي عنده سردية تداعي الحيوان على الانسان او حدث كان من المزمع أن ينهي به (جورج أورويل) حكايته الملهمة (مزرعة الحيوان) فنحن هنا أمام مشهد بحمولات فلسفية أنعشت مسافات التلقي واستدرجت المُشاهد نحو فضاء مقارب لمشاهداته السابقة للصراعات البشرية في ازقة هذه المدن, فضلاً عن تقديم الممثل المذكور تكويناً مركزياً اتاح لهذه الشخصية أن تحتدم مع كل الشخصيات المحيطة بها في الوقت الذي تحافظ به وبشكل دقيق على تعاطيها في اللعب الادائي ضمن مستوى الثنائيات المقابلة وهو ما يظهر المشغلات المدروسة بعناية للممثل الباحث الذي يدرك تماماً الفرق بين اجتلاب ما يحفظ من حلول ادائية مخزنة وبين الحفر عميقاً لإعادة الكشف عن جذمور يشي بنوابت محتملة، وعلى صعيد مقابل فقد أخذت شخصية الكاتب المثقف (لبيد) التي اداها الممثل (احمد شرجي ) بعداً انشائياً مغايراً عبر المفاتحة الانطولوجية لاستشكالات الثقافة العربية وضمور دورها الاجتماعي مما حدى بالممثل المذكور في أن يعيّر ممكناته الادائية ضمن ميزانسين معين يحفظ سلوك الشخصية وتحولاتها الادائية كي تبقى متفردة ولا تنصهر مع شخصيات درامية الفها المخرج ضمن اعماله السابقة ولاسيما تلك التي تشتبك مع شخصيات (تشيخوف) وهو ما يتجلى عبر الدقة الادائية التي حددت الشخصية الدرامية ووضعتها خارج أطر الاحتدام الانفعالي الذي عهدناه في شخصيات سبق وان اشتبك معها المخرج وقدمها نصاً وعرضاً، فضلاً عن العلمنة التي اسقطها الممثل(احمد شرجي) بنباهة منقطعة أدت الى تحييد هذه الشخصية ورفدها بسلوك نسقي ينماز بالضبط والمحايدة وابعادها عن المؤشرات الايديولوجية التي كان من الصعوبة بمكان تحققها نظراً للمرجعيات الايديولوجية للمخرج او للعنونة المعروفة لسردية الصراع الدموي الذي وصلت اليه ثنائية (الثقافة/السلطة) ضمن المعطى التاريخي السابق محلياً او عربياً حتى، الامر الذي سمح باطلاقها خارج الاطر التغليف الايديولوجي لتبقى حارة وحاضرة بكل عللها التي يبدو أنها لم تشفى للان… وفي صعيد آخر حققت الممثلة القديرة(شذى سالم) حضوراً مختلفاً بمستويين مثل الاول الاقتدار على خلق شخصية درامية تمتلك حدود وابعاد خاصة بها على الرغم من كونها شخصية عمد المؤلف والمخرج الى تركيبها عبر تنافذ يخلص نحو تنظيرات النسوية ولاسيما المحَرَضة بكتابات (سيمون دي بوفوار ) وغيرها التي كانت حاضرة دوماً عند تخوم الخطاب النسوي، فضلاً عن تواشجها مع سمات الشخصيات المتمردة ضمن نسق درامي يظهر ظلال الغجرية (كارمن) الشخصية التي ذاعت كبطلة رومانسية وهي شخصية اشتهرت ضمن فضاء اوبرالي لكنها مأخوذة عن رواية فرنسية تحمل الاسم ذاته للمؤلف(بروسبير ميريميه) كذلك فقد مثل المستوى الثاني ما اعتمدته الممثلة من نهج ادائي احكمت به المعنى المتشكل عبر سلوك يوازن بين الداخل والخارج أي بين ما تبثه الشخصية من معنى محسوس مدعم بانفعالات داخلية توجه مستشعرات المتلقي وبين ما يبدو عليه جسدها وصوتها وتعابير وجهها، فقد حولت الممثلة المذكورة عضلات وجهها الى نص آخر نص مقروء قادر على إنتاج كل التحولات الدلالية التي تطلبه الشخصية بدءً من تلك المرارة التي جعلت المتلقي يشاطرها اياه بسبب حزنها على مقتل الكلب(دودن) مروراً بتحولها مفرط الجمال لشخصية قادرة على الاطاحة بقسوة زوجها (ريمون) وليس انتهاء بقدرة تعبيراتها على إحالة فرضية المكان برمته الى فضاء حلمي منح حياة مختلفة للحديقة الميتة وحول الحوار الصلد والاحداث القاسية الى تفاهمات جاذبة لبعد زمني آخر وضع المتلقي في سياق سردية محايثة ومحكي يتناول ايقاعاً مختلفاً ومتصوراً عن الماضي العاطفي للشخصية، وعلى الرغم من التمكن المعهود للممثلة (شذى سالم) لمنظومتها الصوتية عبر تاريخ من الاعمال المسرحية المصاحبة لحقبة كانت المنولوجات فيها هي المهيمنة كسمة مركزية إلا أن من الواضح انها استطاعت تطوير امكانات جسدية وحسية حددت تلك المهيمنات الادائية السابقة وجعلتها تنتج معادلات ادائية فارقة تنقذ الشخصية من خطر سكها على طريقة كسب تعاطف المتلقي ودفعها نحو حدود الاستشكال والاسئلة، ويبدو أن ركون المخرج الى عوامل الاقتصاد السينوغرافي خاصة في مستوى التشكلات الضوئية أفاد فرضيته المتوخية لعمل الممثل من جهة فيما أنقذ المنظومة العلامية من أشكالية الثرثرة البصرية للضوء والتي اصبحت واحدة من معضلات العمل المسرحي عراقياً وعربياً بالتزامن مع المبتكرات التكنولوجية لهذا النوع من الصناعة ولعل ذلك الاتزان شمل الجو العام للبنية المشهديةة بغالبية عناصرها .