طالب عبد الأمير

من جديد تطل علينا فيرجينيا وولف، الكاتبة والناقدة الأدبية البريطانية ألأكثر شهرةً في تاريخ الأدب الانجليزي والعالمي إذ تفردت برؤية أدبية مختلفة عن السائد الأعم في القرن العشرين. ويأتي استذكارها هذا العام إحتفاءً بمرور قرن على صدور روايتها “السيدة دالاواي”، التي نشرتها في بداية العام 1925 والتي تعد من أهم الاعمال الأدبية التي حملت مضامين مهمة مازالت تتنفس سياقات الحدث اليومي، ونحن في منتصف الألفية الثانية، زمن المتغييرات السريعة، التي تلقي بضلالها على مستقبل وجود الانسان على الطبيعة.
بأسلوبها المتميز، أحدثت وولف إهتزازاً عنيفاً في التقاليد السائدة في العمل الروائي. أظهر عمق فلسفة الكاتبة ازاء احداث العصر الذي عاشت به. وأظهرت عمق الصلة الاخلاقية التي تربط بين مسؤولية الأدب في معالجة مواضيع حساسة تتعلق بالانتماء، وتعقيدات الخصوصية والهوية والنسوية ، من جهة، وتعقيدات الوجود الإنساني، بشكل عام، من جهة اخرى.
وبأسلوبها المبتكرالذي عُرف بـ “تيار الوعي” الذي منح المضمون الروائي بعداً آخر، يبدو سهلاً في تفكيك شفراته، انسيابياً في تأويل رموزه وبطريقة تلامس من خلالها مجساتها وأحاسيس القارئ لتقبل النص والمضي معه حتى يصل الى حافات الشغف. لكنه في حقيقة الأمر أن هذا الذي يجري هو حرثٌَ في أعماق النفس البشرية لإظهار مكنوناتها الخبيئة. فليس كل مايقال في الحوارات المعلنة، سواء داخل الرواية أو خارجها في الفضاء العام، صافٍ خالٍ من الشوائب، بل في كثير من الاحيان تحمل الكلمات بقايا من ترسبات الزمن وانكسارته وتفاعلاته. فالحوارات التي تجري بين الشخصيات الرئيسية في الرواية، هي ليست ذاتها التي تدورفي العقل الباطني للمحاورين. اذ هناك في العمق يجري حوارٌ آخر. وهذا ما يلمسه القارئ المتأمل في جريان النص الذي تتلألأ فيه أصداف الرمز ناصعة تنضح بنداوة التأويل. فالوعي والأفكار والأحاسيس تسري بشكل تلقائي غير مؤطر بحدود، كما هو في السرد التقليدي. وهي بهذا تنقل الحياة الداخلية للشخصية بما تحمله من أفكار ومشاعر، وذكريات، وانطباعات، بشكل تلقائي ومباشر. فهذا الاسلوب في السرد الروائي يقرب القارئ من التعرف على الجوانب النفسية العميقة للشخصية، ومعرفة داوفعها، غرائزها وسلوكياتها التي تتجم في علاقاتها وتعاملاتها مع الآخر والبيئة المحيطة.
بهذا ارست الكاتبة فرجينيا وولف إتجاهاً راسخاً ترك اثره في أعمال الكثير من كاتبات وكتّاب الحداثة وما بعدها. كما أعتبرها البعض رائدة المدرسة الواقعية في بدايات تكوينها في نهاية عشرينات القرن الماضي ومن ثم ازدهارها في القرن العشرين.
في روايتها “السيدة دالواي”، تُصوّر عالماً مزقته حربٌ راح ضحيتها ملايين القتلى، ومع ذلك يحاول هذا العالم أن يستمرّ في حياتهٍ الطبيعية. وهنا بالذات تكمن الفكرة في أهمية الرواية. فقبل مائة عام، حيث كَتبت الرواية والى الآن مازال الوضع قائماً كما كان عليه وإن تغيراللاعبون وتبدلت المواقع والأدوار. فمازالت الحروب تحصد الأرواح، بل وجرى تطوير أدواتها ووتحسين أداءها في القتل والدمار. ومازال التباين الطبقي واضحاً والهوة في إتساع بين الأ غنياء والفقراء.
وبمقدار القيمة الفنية العالية والأسلوب المبتكر التي تتصف بها هذه الرواية في طريقة عرض الاحداث تتألق شهرة فيرجينيا وولف كروائية وكاتبة وناشطة نسوية أيضاً، لعبت أعمالها الأدبية والفكرية دوراً كبيراً في النشاطات التي دعت الى تحرير المرأة من التقاليد البالية وتفكيك القيود المفروضة على النساء في تلك الفترة، كحرمانها من التعلم و العمل أسوة بالرجل. وهي ذاتها تلقّت تعليمًا منزلياً مكثفًا في الأدب الكلاسيكي والأدب الفيكتوري، فقد وجدت في بيتها مكتبة ضخمة ساعدتها مع شغف القراءة على تكوين تعليمٍ مرموق ومعرفة ثقافية مميزة، حيث ولدت وعاشت في كنفِ أبٍ كان ناقداً أدبياً ومؤرخاً مما هيأ لها الظروف لرحلتها الادبية والفكرية، التي إنطلقت بها منذ نهايات القرن التاسع عشر، كما أصبحت عضواً فاعلاً في مجموعة “بلومزبري”، التي كانت تضم عدداً من الادباء والفنانين والمفكرين الإنجليز الرافضين للأعراف التقليدية في الأدب والفن والسياسة. كانوا في بداية القرن العشرين يجتمعون في منطقة وسط لندن تدعى “بلومزبري” ومن هنا جاءت التسمية لهذه المجموعة والتي كان لها أثر بالغ في في الأدب والاقتصاد والنقد.
وتأتي” السيدة دالاواي”، بالتسسل الرابع من بين الروايات التسع التي كتبتها فيرجينيا وولف وهي (“رحلة الخروج”1915،”الليل والنهار” 1919 ، “غرفة جاكوب” 1922 “، “السيدة دالاواي” 1925″، “الى الفنار” 1927، أورلاندو 1928″ ،”الأمواج”1931، ” السنين” 1938 “بين الأعمال”1941 ومن ثم “بيت تسكنه الأشباح” 1944 وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها.
وتدور أحداث روايتها المحتفى بيوبيليتها المئوية، هذا العام في لندن وليوم واحد فقط تتابع فيه الكاتبة حياة “كلاريسا دالاواي” وهي زوجة عصرية لأحد السياسيين. لكن ذلك اليوم، من ايام حزيران، له ميزة خاصة، فهو يوم الاحتفاء بعيد ميلاد بطلة الرواية. إذ تُقيم كلاريسا دالواي حفلًا في منزلها في وستمنستر، أحد الأحياء الراقي في لندن. زوجها ريتشارد عضوٌ في البرلمان، واثقٌ بنفسه ولكنه يفتقر إلى الخيال.
في منزل كلاريسا، يظهر فجأةً حبيبها القديم بيتر والش، الذي عاش في الهند لسنوات طويلة، نتعرف عليه من خلال الحوار مع كلارسيا كشخصية رومانسية، خرقاء بعض الشيء، لكن عشقه للموسيقى والشعر جعلها تنجذب اليه في ذلك الوقت. في الحال، مرت بها خاطرة من انها لو تزوجته لكانت سعيدة في حياتها. في لحظات اللقاء بدت المشاعر بينهما جياشة أيقضت حفيف شجيرات الحنين. هنالك أيضًاً الجندي الشاب سيبتيموس الذي رأى صديقه يموت في خنادق الحرب العالمية الأولى، ويعاني مما يُسمى الآن اضطراب ما بعد الصدمة.
في هذه الرواية إنتبه النقاد الى حصول شئ متميز في اسلوب الكتابة لدى فيرجينيا وولف. فقد سلطت الأضواء على شخصيات إجتماعية ومن فئات مختلفة، سبرت فيها العوالم الدفينة في النفس البشرية، وأظهرت المتغيرات التي طرأت على أحوال المجتمع الانجليزي في السنوات الاولى من القرن العشرين، بأسلوب يجعل تسلسل الافكار عفوياً، والأشياء بمسمياتها.
ميزة هذه الرواية بالذات، انها خرجت عن المألوف في اسلوب كتابة النص الأدبي وعرضها للأحداث من خلال رسم شخصياتها، لا عن طريق تصويرها المباشر، وانما من خلال الانطباعات التي تتكون عنها أثناء صيرورتها وجريان الذاكرة والذكريات التي يجري استدعائها في اللحظة المناسبة. وهذ الاسلوب الذي وجد فيه نقاد الأدب أكثر أهمية من التقليد السردي العادي. وجرت تسميته بتيارالوعي. الذي يحتوي على أسلوب سردي يهدف إلى تصوير التدفق المستمر للأفكار والمشاعر داخل عقل الشخصية. يعتمد هذا الأسلوب على نقل العمليات العقلية للشخصية بطريقة غير مباشرة، غالباً من خلال المونولوج الداخلي، والتداعي الحر، والوصف الحسي، وغيرها من التقنيات، التي باتت نهجاً يسبغ كل كتاباتها وسيرة حياتها ، حياة “فيرجينيا وولف”، الكاتبة البريطانية والشخصية الفذة، ولكنها المليئة بالصراعات النفسية التي واجهتها.التي جاءت الى الدنيا في الخامس من ينايرالعام 1882 وأنهتها إنتحاراً في 28 من مارس 1941.
صفحات مخفية من تاريخ فيرجينيا وولف
مع هذا الكم الهائل من المعلومات عن الكاتبة فيرجينيا وولف طيلة الفترة مابين الحربين العالميتين، وما تلاها، بقيت أشياء كثيرة مبهمة لا يعرفها الكثيرون حتى صدور كتاب الباحثة ماريا يانتوس ساينز أستاذة معهد بوردو-أكيتين للصحافة جامعة بوردو مونتين. فرنسا، هذا العام 2025 بعنوان ” فيرجينيا وولف صحافية” سلطت فيه الباحثة الضوء على جوانب مهمة ومعلومات، لم تكن متوفرة من قبل، عن علاقة الكاتبة الانجليزية المبكرة بالصحافة، والتي بدأتها وهي في التاسعة من عمرها، بمقالاتها الأولى للصحيفة التي أسستها هي وشقيقتها الكبرى فانيسا عام 1891. وكان عنوان الصفحة الرئيسية هو “أخبار جادة هايد بارك” وهو اسمٌ مستوحى من إسم الشارع الذي عاشوا فيه في منطقة كنسينغتون الراقية. وكتبوا فيها سجالات قصيرة مكتوبة بخط اليد عن الحياة اليومية والألغاز وقصصاً عن العائلة والأصدقاء، ولكن أيضاً حكايات ومذكرات ومراسلات من نسج الخيال الخصب.
في العدد الأول من النشرة، عرضتا رسوماً كاريكاتورية لإخوانهم وحكايات شخصية، محملة أحيانًا بإيحاءات ساخرة. إستمرت هذه المغامرة الصحفية أربع سنوات. تقول ماريا سانتوس. أن قصّة فيرجينيا وولف غنىية في الكلمات والكتابة عن الطفولة في الهايد بارك جات نيوز. “صحيفة الطفولة تلك كانت بمثابة مدرسة للكتابة، والفضاء الذي سمح لفرجينيا الطفلة بتحقيق ذاتها عبر الكتابة. كان والداها هما أول قرائها حيث كانت تستيقظ مع الفجر، وتدفع الصحيفة من تحت باب غرفة النوم، مترقبة ردود فعليهما على المقالات. والدها السير ليسلي ستيفن كان كاتباً وصحفياً سارت فيرجينيا، أو “مادلين” كما كان اسمها قبل الزواج على خطاه في عالم الصحافة، فأظهرت ميلاً مبكراً للكتابة والإبداع منذ الطفولة. كان لديها شغف غير مشروط للقراءة والكتابة. وفي العام ١٩٠٤، دوّنت في مذكراتها: “لا يسعني إلا الكتابة”. في ذلك العام، أصبحت الصحافة مهنتها الأولى.
“كانت فيرجينيا وولف تملك موهبة تحويل أي تجربة حياتية إلى كلمات. علّمت نفسها بنفسها، ولم تلتحق بالمدرسة أو الجامعة إلا بعد حين لدراسة اللغة الانجليزية. كانت قارئة نهمة، وفي مكتبة عائلتها الرائعة اكتشفت الكلاسيكيات والأدب العظيم. خطت أولى خطواتها في الكتابة الاحترافية من خلال الصحافة. بدأت وولف مسيرتها المهنية عام ١٩٠٤. بموهبتها الفذة، كتبت فرجينيا وولف عدداً لا يُحصى من المقالات النقدية والصحفية طوال حياتها. نشرت العديد منها – في إنجلترا والولايات المتحدة – خاصة الغارديان ، وملحق التايمز الأدبي “.
” الصحافة مطرقة نكسر بها جدران الصمت“.
لم تعتبر فيرجينيا وولف الصحافة كمرأة للواقع، بل هي مطرقة نكسر بها جدران الصمت. جاءهذا في مقال
لها في العام 1931.
كانت الصحافة الأدبية مصدر دخلها الرئيسي، حيث وجدت فيها فضاءً أبدعت فيه بكتاباتها، وأجرت فيها تجارب ساعدتها على توسيع آفاق تفكيرها و اسلوبها المميز في كتابة نصوصها الروائية. وفي محاضرة لها امام الجمعية الوطنية للمرأة في 21 يناير 1931 في لندن حول “المهن الخاصة بالنساء”، ألقت فيرجينيا وولف محاضرة استندت فيها على تجربتها كصحفية حول أهمية تحرير المرأة من التبعية الاقتصادية وغيرها.
ومن قراءة مقالاتها الصحفية الأدبية والأبداعية يسشف المرء شغف فيرجينيا وولف بمهنة الصحافة والتزامها بها. وقد ابدعت في ابراز نوعين من المقالات. فهنالك النصوص التي ركزت على الأحداث الأدبية الراهنة ومراجعات الكتب، من جهة، والمقالات المُعمّقة، التي تُناسب أسلوب المقال الصحفي، من جهة أخرى. في النوع الأول من المقالات تطلق الكاتبة العنان لأفكارها حول الأدب والإبداع. فيما يُتيح لها المقال الصحفي إقامة حوار مباشر مع القراء – حيث تكثر التلميحات، وأحياناً ما يُصاحبها شيء من السخرية – ولكنه يُتيح لها أيضًا مواجهةً بين التقاليد الأدبية والثقافة. كما تكشف أحيانًا عن اعترافاتها الخاصة، بل وتخوض غمار الأدب الروائي بحرية.
وفي مقال لها بعنوان “انحدار المقال” نُشر في مجلةا الأكاديمية والأدب“في 25 فبراير 1905، وضعت فرجينيا وولف أسس تصورها وتجديدها لهذا النوع الصحفي، الذي تُطلق عليه اسم “المقال الشخصي”: فالكاتب ينظر الى المقال الصحفي كنوع من الرأي والتعليق. فهو “قبل كل شيء تعبير عن رأي شخصي:
“أبرز هذه الابتكارات الأدبية هو ابتكار المقال الشخصي. لا شك أن تاريخه يعود إلى مونتين، ولكن يُمكننا بسهولة تصنيفه ضمن الحداثيين. […] الشكل الخاص للمقال يُوحي بجوهر خاص: هذا الشكل يُتيح لنا قول ما لا يُتيحه لنا أي شكل آخر بهذه الدقة”.
ومن بين أعمالها الصحفية أيضاً، والتي لم يكشف عنها من قبل كتبت فيرجينيا وولف سيراً ذاتية لشخصيات أدبية عظيمة الشأن، من بينهم كُتّابها المفضلين، دوستويفسكي ومونتين وتولستوي، على سبيل المثال لا الحصر، بالإضافة إلى جين أوستن وكبلنج وويتمان وهنري جيمس.
ورغم حياتها المعقّدة، التي تشابكت فيها عناصر متباينة حملت “فرجينيا وولف افكاراًعالية الطموح وقوة التأثير بالآخر، خاصة تلك التفاصيل المتعلقة بحرية المرأة المبدعة، في الكتابة والرسم والتصميم الفني ….الخ، التي حفزّت، من خلال مقالتها الطويلة بعنوان “غرفة تخصّ المرء وحده”، المرأة وأيقظت فيها الإحساس الداخلي كونها لا تختلف عن الرجل المبدع في صناعة النص الأدبي.
كانت دعوتها وانطلاقتها في المقالة المذكورة مادة لمحاضرات قامت بها أمام عدد من الطالبات في جامعات مهمة في بريطانيا و الولايات المتحدة وجرى التفاعل معها لتصبح بمثابة بيان سياسي واجتماعي على مستوى العالم، في القرن العشرين. بل واعتبره البعض دراسةً نقدية موضوعها الرئيسي اللامساواة فكرياً، ثقافياً، وسياسياً بين الرجل والمرأة إذ طالبت فيه، ليس فقط بالمساواة بين الجنسين، فحسب، بل وبإظهار عمق العلاقة الجدلية التي تربطهما والابعاد الفكرية والفلسفية والمجتمعية لهذه العلاقة. حيث نالت المقالة تأييداً جعلها، بعد بضعة شهور تنشرها في كتاب العام 1929.
وتتلخص فكرته بالاشارة الى أن من الضروري ان تكون للمرأة الكاتبة فسحة مكانية خاصة بها مع توفرها على مبلغ من المال لتمويل مشروعها الابداعي.
ومثلما تداخلت وسائل التعبير عن أفكارها بين الكتابة السردية والمقالات الصحافية، وكانت ناشطة عنيدة في مجال حقوق المرأة، تشابكت ايضاً حياتها وسيرتها الذاتية مع أفكارها الأدبية والانسانية. وكان لعملها الصحفي دورا بارزاً في تجريب رؤاها وصقل موهبتها. فشكل لها منطلقا للكتابة الروائية الحديثة التي غيّرت شكل الرواية وساهمت في بلورة خطاب نقدي مبكر ذاع صيته في بلدان كثيرة وإنعكس في تراجم نسائية عربية.
ومثلما مارست الروائية النقد الأدبي، كتبت أيضًا مقالات سياسية تناولت الأحداث الجارية، دافعت فيها عن المسألة النسوية، والسلمية، أو دعمها للجمهورية خلال الحرب الأهلية الإسبانية،.كانت داعية سلام متحمسة، تناولت سؤال “كيف نتجنب الحرب؟” في مقالها الاجتماعي السياسي “ثلاثة جنيهات” الذي نددت فيه بالفاشية، وإثارة الحروب، والتمييز ضد المرأة في المجتمع الإنجليزي الأبوي. كما أن واحداً من أهم مقالاتها الذي نشرته في صحيفة الحزب الشيوعي الأمريكي ديلي ووركر. ويتعلق بدور الفنان في المجتمع، خاصة في ظل الحرب.
فيرجينيا وولف في الوسط الثقافي العربي
ليس ثمة ما يدلنا على الفترة التي بدأت بها الساحات الثقافية تتعرف على فيرجينيا وولف سوى مقال كتبه في بداية ثلاثينات القرن الماضي باحث سوادني أسمه معاوية محمد نور (1909- 1941)، نشره في مجلة “الهلال” المصرية، في عددها الصادر في ابريل من العام 1931 حول “فن التراجم الجديد” وذكرفيه إسم الكاتبة الانجليزية فيرجينيا وولف، وذلك في سياق حديثه عن الاثر الذي خلفته الحرب العالمية الاولى على مضامين وأساليب الأجناس الإبداعية، خاصة في دول مثل انجلتراوالمانيا وفرنسا، وتحديدا فيما يتعلق بسمات ومفاهيم القصة القصيرة والتراجم والسير الذاتية، التي كانت مواضيع نقاش دائر على الصفحات الادبية العربية. بعد أن دخلت تلك الاجناس الادبية الحديثة الى الساحات الثفافية العربية في تلك الفترة. ومن خلال البحث الذي تناول فيه الكاتب السوداني فن السيرة الذاتية الخاصة بالمبدعين والمفكرين وفق المنهج الغربي، أي الكتابة عن الذات بما يشمل محاسنها ومعايبها، قوتها وهشاشتها.
لكن كما يبدو أن ماكتبه الباحث السوداني عن فيرجينيا وولف ظل إشارات عابرة لم تلق ذلك الصدى الذي لقيته الكاتبة الانجليزية في حضورها في الساحة الادبية العربية بعدئذٍ خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. رغم أن ما تطرق اليه معاوية محمد نور في تلك الدراسة يعد شأنا مهما للتعريف بأبرز كاتبة نسوية مبدعة في العالم، على الصعيدين الأدبي والإجتماعي، خاصة اذا ما عرفنا بأن هذا الكاتب الذي يجهله كثيرون، كان من ابرز الأصوات الأدبية والفكرية السودانية في النصف الثاني من القرن العشرين، بالرغم من قصر أمد مسيرته الأدبية والفكرية، اذ توفي في العام 1941 وهو لم يبلغ سنه الثالثة والثلاثين. وكان من المتخصصين في الأدب الانجليزي والفلسفة، بعد أن درسهما في الجلمعة الامريكية ببيروت، وتأثر بالفكر الغربي الحديث والأدب الاوروبي والنهج العقلاني في التفكير.ودعا الى انفتاح الأدب العربي على التيارات الادبية الغربية الحديثة وضرورة تحرير الفكر من التقاليد الجامدة. وربما لهذا السبب تعرض للعزلة ثقافية من قبل رموز تلك الحقبة، كما تشير بعض المصادر.
وبعد ثلاثين عاماً على ذكرها في مقال معاوية محمد نور، اقتحمت فيرجينيا وولف الساحة الأدبية العربية من خلال الدراسة التي نشرتها الباحثة فاطمة موسى لمجلة “الآداب” اللبنانية في مارس 1962، تحت عنوان: “المؤثرات الفلسفية في قصص فرجينيا وولف”. وهذا يعد أول بحث، باللغة العربية، حول فيرجينيا وولف وتجربتها الإبداعية. وتزامن ذلك مع كتابة إدوارد ألبي مسرحيته الموسومة “من يخاف فرجينيا وولف” في العام عام 1962 والتي تحولت إلى فلم سينمائي في العام 1966 من بطولة إليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون. غير أن أول ترجمة لمؤَلف من اعمالها الى اللغة العربية جاء بعد عرض القيلم بعشرة اعوام، حيث تمت ترجمة اولى كتبها، وهو كتاب نقدي حول الادب الانجليزي وملامحه في كافة العصور التي مربها، كتبته فيرجينيا وولف بعنوان ” القارئ العادي” ، قامت بترجمته الى العربية عقيلة رمضان وسهير قلماوي عام 1971. ثم ترجم عطا عبدالوهاب رواية “السيدة دالواي” 1989 وترجمت سمية رمضان كتاب “غرفة تخص المرء وحده” 1999م، ثم ترجمت فاطمة ناعوت “جيوب مثقلة بالحجارة” 2004، وترجمت ليلى محمد عثمان نجاتي “يوم الإثنين أو الثلاثاء” 2008، وعادت فاطمة ناعوت في 2009 لتترجم “أثر على الحائط “. وفي العام 2014 أصدرت الكاتبة المغربية لطيفة باقا مجموعتها القصصية الثالثة بعنوان “غرفة فيرجينيا وولف، فيما نقلت إيزابيل كمال في العام 2015 الى العربية كتاب فيرجينيا وولف “الى الفنار”، وترجم توفيق الأسدي رواية “أورلندو”2016، وترجمت سناء عبد العزيز رواية ” غرفة يعقوب” 2019، وهناك ترجمات أخرى لبعض هذه العناوين، لمترجمين ومترجمات في بلدان عربية آخرى..
فيرجينيا وولف ومي زياده
مما تجدر الإشارة اليه هو أن الساحة الادبية والثقافية العربية خلت من أي ذكر لصلة أو حتى اشارة ما تربط الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف بالكاتبة العربية مي زيادة 1899- 1941، علماً بأنهما تشتركان بأمور كثيرة، ليس أقلها انهما عاشتا في نفس الفترة تقريباً، ولهما ذات المواضيع التي عالجتاها في أعمالهما الأدبية. وأن كلتيهما انشغلتا بالأدب والصحافة الثقافية وقضايا المرأة، إضافة إلى أن مي زيادة مثل فيرجينيا وولف أصيبت باضطراب عصبيّ، وأدخلت المصحة العقلية، ثم ماتت في السنة نفسها التي انتحرت فيها الكاتبة الإنجليزية . وكما كان لفيرجينيا مجموعة بلومزبري ” وهي حركة طليعية تشكلت في لندن وضمت شخصيات كبيرة من حملة الفكر والقلم الداعيين الى كسر القيود المكبلة للافكار والرؤى الفلسفية في الأدب والفنون والمجتمع، كان لمي زياده صالونها الادبي، الذي انتظم فيه عدد من الأدباء والمفكرين والمثقفين المعرفوين في تلك الفترة، بل وحتى من السياسيين. وكما كانت فيرجينيا وولف رائدة من رائدات الكتابة النسائية، كانت مي زياده تسعى لتغيير المفاهيم المتعلقة بالنظر الى المرأة بسطحية والتقليل من شأنها في الاعمال الابداعية، على سبيل المثال. وهذا ما سلطت عليه الضوء الباحثة الكويتية سعاد العنزي في بحثها الموسوم بـ “نساءٌ عربيات في غرفة فيرجينيا وولف” الذي صدر في يناير العام 2021 في كتاب يحمل مقاربة أدبية بين الكاتبتين، الإنجليزية فرجينيا وولف، المولودة في لندن في العام 1882 والعربية من اصل فلسطيني مي زيادة المولودة في الناصرة العام 1866 والمتوفاة في القاهرة في نفس العام الذي توفيت فيه فيرجينيا وولف العام 1941 في لندن.
يظهر الكتاب الكثيرمن المشتركات بين الكاتبتين، على مستوى الحياة التي عاشتاها والرؤى والجهود النقدية النسوية المبكرة التي بذلتها كل منهما من أجل حرية المرأة ومساواتها بالرجل. وبرغم بيئتيهما المختلفتين فأن مي زيادة وفرجينيا وولف تلتقيان في المعاناة الإنسانية، وبالرؤى النقدية النسوية المبكرة التي سبغت اعمال ونشاطات كل منهما، وكذلك مصيرهما المأساوي المتشابه، وهو الاصابة بالاضطراب النفسي والعقلي الذي قاد الى ان تدخل زيادة المشفى ثم يعلن موتها ، وأن تلقي فيرجينيا وولف بنفسها مرتدية معطفها المليئ بالحجارة في النهر
طبعاً تسليط الضوء على مي زيادة له ضروروته المستمدة من قلة الكاتبات العربيات، أو قلة المعرفة بالعربيات اللواتي تركن حضوراً مهماً في الحياة الادبية والثقافية الفنية والاجتماعية حتى، في بدايات القرن الماضي، والسبب معروف هو الهيمنة الذكورية على مفاصل تلك المجالات الابداعية وتفرعاته الاخرى في النقد والوعي والفكر. فاختراق هذا الجدار السميك المحيط بالدوائر الذكورية الماسكة بتفاصيل المشهد الثقافي وتداعياته على الحياة، في تلك الفترة، ومن قبل كاتبتين ولدتا وعاشتا في بيئتين مختلفتين من جميع النواحي، يشكل علامة بارزة في تطور الوعي والادراك لدى المرأة سواء في الغرب ام في الشرق. وفيما يَعرف الادب العربي، على سبيل المثال، الكثير عن أيقونة الأدب البريطاني وايقونة النشاط من اجل المرأة فيرجينيا وولف، نجد في المقابل تعتيماً بقصدٍ أو دون قصد، على أعمال وأنشطة الكاتبة والناشطة النسوية العربية مي زياده، والتي تظهر لنا دراسة سعاد العنزي المقارنة، مساحات مضيئة من حياتها.