طريق ثقافي

الألقاب والنعوت: المشروعية والمشروطية

د. نادية هناوي

تحتلُ الألقابُ المهنية والعلمية رسمية أو شعبية مكانة مهمة في أنساق حياتنا العامة، متحكمة في كثير من أساليب التعامل الرسمي وغير الرسمي في ما بيننا. وعادة ما تنال شخصية من الشخصيات لقبا معينا بسبب ما تحرزه من إنجاز إنساني أو تحصيل علمي وما تتمتع به من مكانة مميزة في ميدان من الميادين الحياتية المختلفة.

واللقب التشريفي صفة اعتبارية تمنحه جماعة معنيّة بشأن من الشؤون ليكون اسما دالا على شخصية ما. وليس اللقب هوية، كون القصد من اطلاقه ليس التحديد المهني لطبيعة عمل الشخص؛ فقولنا فلان مهندس أو محام أو دكتور ليس لقبا تشريفيا كما لا يكون اللقب تدليلا على الموقع كي نقول إن فلانا رئيس أو مدير أو عميد فهذا منصب. وهو ليس تحديدا للمستوى والطبقة ولا هو تصنيف أثني جنوبي كي نقول إن فلانا برجوازي أو جامعي أو سرياني، فهذه كلها وغيرها توصيفات يشترك فيها أفراد كثيرون وتكون لهم بمثابة هوية مخصوصة ضمن المجال المحدد الذي ينتمون إليه.

والمفترض في الألقاب أنها تُمنح من لدن أناس متخصصين في مجالهم وخبراء لهم احترامهم أو جهات رسمية موثوقة كأن تكون جامعات أو مراكز دراسات أو معاهد بحث تمتلك المؤهلات التي تجعلنا مطمئنين إلى أحكامها، ومن ثم لا تشوب مكانة من يُطلق الالقاب شائبة من الناحية الموضوعية. وإذا ما مُنحت شخصية ما لقباً فينبغي أن يكون ذلك المنح في مكانه دقيقا ونزيها ليس فيه محاباة ولا مراعاة؛ بل هو التمييز الذي يستحقه الملقب، والموضوعية التي تحقق المقبولية للقب الممنوح.

والمسألة لا تتعلق بالأشخاص الذين يُنعتون بهذه الالقاب فلربما يكونون مستحقين لها وأكثر لكن الإشكال يكمن في مدى مشروعية من بيده عقدة اطلاق الألقاب وهل تخضع فعليا الى معايير محددة او متعارف عليها؟.

لا غرو في أن تثار الشكوك حول بعض الألقاب وذلك بحثا عن الحقيقة ورغبة في الوصول الى مصداقية اطلاقها؛ فالأمر ليس متروكاً على الغارب كي يقوم هذا او ذاك باطلاق الألقاب على آخرين قد لا تنطبق عليهم أصلاً.

ومؤخرا صرنا نشهد إطلاق ألقاب تشريفية ونعوت تكريمية على شخصيات معينة بطريقة مجانية من دون اعتبار للمعايير اللازمة لمنحها ولا احترام للرأي العام أو الشعور بالمسؤولية في اعتمادها لاسيما في مقالات صحفية يطلق كتّابها ألقاباً على شخصيات أدبية أو أكاديمية ؛ وهو أمر يتطلب وقفة حازمة ونظرة جادة. ومما صادفني من ألقاب ونعوت أخذت تطلق مؤخرا وبأوقات غير متباعدة وكأن مطلقيها خبراء علماء: فلان الشاعر الكبير ، فلان السارد الخالد ، فلان المفكر – وهذا النعت تحديدا صار موضة هذه الايام- فلان العلّامة.. الخ.

ولا يخفى أن من يلقب بواحدة من هذه الالقاب والنعوت لا يكفي أن يكون متميزا ببعض المزايا في مجال عمله ناهيك عن أن يكون ذا منجز حقيقي يدل عليه وحده من بين عشرات الاخرين الذين يشاكلونه الصفة والهوية؛ وإنما ينبغي أيضا بالإضافة إلى ما تقدم أن يكون له تميزه الفريد الذي به يغاير مجايليه إبداعا وابتكارا وضمن الحقل نفسه الذي يعمل فيه ويتخصص؛ وإلا فإن الشهادة والخبرة في التخصص وكثرة التأليف والاكاديمية لن تكون كافية لأن تعطي لصاحبها التمايز الذي يجعله ليس كغيره وهو الذي يتقارب في الحقيقة والواقع مع آخرين لهم ما له من إمكانيات. وإلى جانب ذلك أيضا ينبغي في منح الالقاب أن يكون المطلق لها على دراية بحقيقة الشخصية مستقصيا منجزاتها وحياتها وما قيل فيها استقصاء دقيقا كي لا يكون اطلاقه لمجرد هوى في نفسه تجاه تلك الشخصية أو لاجتهاد شخصي محض أو بجزافية ليست لها أية دعائم منطقية وواقعية.

إن من المعتاد في الشخصيات الملقبة بالألقاب التشريفية أن تمتع بباع حياتي أو علمي هو نتيجة جهد ذاتي وانقطاع للمعرفة بشكل تام في مجال من المجالات بما يجعل الشخصية متميزة إبداعيا أو ربما علميا أو معرفيا وإنسانيا عن الآخرين المعروفين ضمن مجال معين؛ إما بسلسلة لا تحصى من المتراكمات الانتاجية والسيرورات الابداعية وبلا أدنى خمود أو فتور، وإما بتأليف الكتب المتوالية المحملة بالاجتهادات الخاصة والطروحات البناءة وإما بالتتابع الدائم والمداوم بحثا وتقصيا وبفاعلية لا تعرف انقطاعا مع سيرة حسنة وسلوك مشهود له في المحافل المختصة.

فطه حسين مثلا لُقب بعميد الأدب العربي في بدايات القرن الماضي، لا لأنه كان أستاذا وأكاديميا وباحثا وأديبا وقاصا ومقاليا مميزا وإنما ايضا فرادته في كل واحدة من هذه المزايا التي لا يضاهيه فيها أحد إن لم يكن متفوقا بها كلها على غيره حتى أنه لا يشبه أحدا ولا أحد يشبهه. وها قد مضى أكثر من 47 عاما ولا أحد يستطيع أخذ اللقب منه. هذا اللقب الذي منحه إياه الرأي العام ناظرا إليه مفكراً أثارت كتاباته جدلا وتعرض بسببها الى المضايقات، فكان منها الاقالة من الوظيفة والتشهير والتكفير. الامر الذي جعل احتجاجات الطلاب والاساتذة تصدح خارج أسوار الجامعة المصرية، هاتفين إن” إذا أقيل طه حسين من عمادة كلية الاداب فإنه عميد للأدب العربي كله”. وكذلك ما لُقب يوسف وهبي بعميد المسرح العربي إلا بسبب ما قدمه للمسرح من مجهود تجديدي كبير كان بمثابة مدرسة تخرج فيها الرعيل الاول من الفنانين والممثلين والمسرحيين الكبار. وما لُقب الفنان يوسف العاني بعميد المسرح العربي والافريقي إلا بعد مسيرة شاقة في الميدان المسرحي نافت على السبعين عاما تأليفا وتمثيلا وكتابة نقدية. ومعلوم أن الاب انستاس ماري الكرملي كان يتمتع بالموسوعية والباع المعرفي الكبير في مجال اللغة والامثال واللهجات والمعاجم ولشدة حبه للعلم وانقطاعه إليه منحه المتخصصون الصدارة المعرفية بلقب( العلامة).

وليس مثل الأدب والنقد ميدانين هما أحوج ما يكونان إلى الدقة في اطلاق لقب محدد او نعت معين أو منح تسمية ما. ومن ثم يغدو لقب كبير مثل( المفكر أو العلامة) غير سهل ولا متاح لان يُسمى به أحدهم بشكل جزافي وغير مسؤول.

ولعل وراء التسمية أسباب ليس العلم واحدها بالطبع، وأهم تلك الأسباب الارتفاع باسم الملقب وتضخيمه، أما لهوى في النفس أو لطموح داخلي نحو تحقيق مطلب ما أو لرغبة في رد الجميل. ونادرا ما نجد – وهذا مؤكد – أن الشخص الملقب يقف بالخفية وراء ذلك الذي يسميه بالعلامة وينعته بالمفكر. والسبب أن اسم الشخصية الملَقبة في الأساس مصدَّر بواحدة من المسميات ( الدكتور او الاستاذ او الباحث ) أو لأنها معروفة عند الجميع ومنجزها وأكاديميتها تكفيان في التدليل عليها قولا وفعلا.

بيد أننا نرى أن الفرادة التي يقتضيها لقب العلّامة أو المفكر أو الكبير قد تستحقها أسماء، بعضها ما كان أكاديميا ولا صاحب شهادة جامعية ولا أستاذا أو مدرسا ومع ذلك كان لعلمها فيض يشهد به القاصي والداني ولمنجزها أثر لا تخطئه العين كعباس محمود العقاد مثلا. عموماً؛ فإن الشخصية الكبيرة ذات الغنى المعرفي عادة ما تكون برمة بالألقاب فلا توليها اهتماماً كبيراً لكونها لا تضيف إليها شيئاً بالمطلق.

Facebook
LinkedIn
X
Facebook

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى