طريق ثقافي

مراجع علم السرد الرقمي ونماذجه

د. نادية هناوي

يشهد علم السرد ما بعد الكلاسيكي نشاطاً بحثياً مكثفاً على أيدي منظرين من جنسيات مختلفة، ولعل أهم مظاهر هذا النشاط البحثي هو تنوع مساراته وتعدد أروقة درسه وبحاضنة مرجعية مستمدة من مصدرين أساسيين: المصدر الأول يتمثل في ما قدمه النقاد الأرسطيون الجدد ومعهم نقاد نظرية الرواية الامريكان مثل برسي لوبوك ورينيه ويليك وأوستن وارين وواين بوث. والمصدر الثاني يتمثل في الفلسفة البراغماتية والظاهراتية وتأثيراتهما في نظريات الاستقبال والقراءة ونقد استجابة القارئ.
لقد تعددت فروع علم السرد ما بعد الكلاسيكي وتشعبت المجالات المعرفية والبحثية لكل فرع من هذه الفروع حتى غدا كل فرع علماً قائماً بذاته. والفضل في ذلك التعدد يعود إلى الدراسات التي وضعها منظرو المدرسة الأنجلوامريكية مثل ديفيد هيرمان ومونيكا فلودرنك وجيمس فيلان ومن جاء بعدهم مثل براين ريتشاردسون وجان البر وبراين ماكهيل وروبين وارهول ورابنينوفيتز وغيرهم. والدلائل كثيرة على تسارع وتيرة هذه العلوم السردية سواء على مستوى المنح البحثية أو على مستوى تعدد التوجهات القائمة على التعابر في التخصصات. ومن هذه التوجهات ما يتمثل في العلوم الفرعية نفسها من قبيل علم السرد غير الطبيعي (Un-natural narratology) وتعابره مع السرد الرقمي (Digital Narratology) وما قد يتولد عن ذلك من كشوفات تفتح آفاقا نظرية لمزيد من الدراسات. ولعل خير مثال على ذلك هو كتاب (القصة الرقمية واللاطبيعية: نظرية السرديات العابرة للميديا منهجا وتحليلا) لاسترد انسلين وأليس بيل، الصادر خريف 2021 عن جامعة اوهايو ضمن سلسلة (النظرية وتفسير السرد) التي يشرف عليها جيمس فيلان وكاترا بيرام وفاي هالبرن. والكتاب يتألف من خمسة فصول مع مقدمة وخاتمة ويقع في 218 صفحة.
وفيه سعى المؤلفان إلى تحقيق أغراض تصب في صالح علم السرد ما بعد الكلاسيكي من خلال دراسة اللا طبيعية في السرد كأحداث مستحيلة الحصول بشخصيات غير آدمية أو من دونها، تُعرض أمام المتلقي عبر وسائط الميديا المتنوعة كألعاب فديوية وأفلام رسوم متحركة وصور ثلاثية الأبعاد وروايات رقمية وغيرها. وتتنوع طرائق خرق السرد القصصي الطبيعي والتجاوز عليها داخل التصميم الفيلمي، كأن يظهر السارد شجرة تخاطب المتلقي فجأة فيندهش ويستفز بما يعرضه السارد من أحداث غير منطقية، فيتفاعل مندمجاً انطولوجيا مع أجواء الفيلم الفديوي.
ويتوقف نجاح الفيلم لا على تأليف القصة حسب، بل على قدرات مخرج الفيلم أيضا ورؤيته الإخراجية التي بها يربط سلسلة الصور أو المشاهد أو اللوحات، توحي للمتلقي بأن القصة لا لبس في أن تكون قد حدثت مع أنها تخرق ما هو طبيعي في السرد القصصي.
والناتج عن هذا التعابر السرد ـ مديوي أو الإعلامي هو قصة تفاعلية Interactive Fiction وفيها يكون المتفاعل قارئاً ومشاهداً ومستمعاً ولاعباً، يواجه بانتظام لحظات من المفاجأة والارتباك والحيرة، متأثراً نفسياً بما تعرضه الوسائط الافتراضية، مما يدفعه إلى التفكير مركزاً فيما يشاهده من (واقع) يختلط فيه الخيال بالواقع، محاولاً أن يوصل المقطوع ويردم الفواصل والثغرات ويوفق بين المتناقضات وكل ذلك يجري في إثناء عملية التلقي المرئي للأفلام والألعاب والصور.
وأغلب موضوعات هذه الأفلام مستوحاة من قصص قديمة تعود إلى زمن الملاحم أو مقتبسة من روايات كلاسيكية تعود إلى العصور الوسطى والقرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهي تحفل باللاواقعية وفيها توظف الخيالية بصور مختلفة، بعض منها من نوع skaz ـ وهو سرد شفاهي عفوي يكتب باللهجة الدارجة ـ وبه تتقوض أسس السرد الطبيعية. مما اعتبره المؤلفان متجذراً بعمق في التقاليد الغربية والأنجلو أمريكية، وفاتهما أن السرد غير الطبيعي عرفته آداب الحضارات الشرقية الحافلة بالخرافات والأساطير التي فيها يختلط الخيال بالواقع والحي بالميت والسماوي بالأرضي، ونظمت من هذه الأساطير الملاحم الشعرية.
واعتمد المؤلفان استرد انسلين وأليس بيل في بناء تصوراتهما للقصة التفاعلية ودراسة التعابر (السرد ـ ميديوي) على مرجعين، الأول كتاب مونيكا فلودرنك “نحو علم سرد الطبيعي” Towards a natural narratology 1996 وأعيد طبعه في العام 2002 وفيه طرحت فلودرنك لأول مرة مصطلح (الطبيعية Natural) ووضعته على طاولة البحث السردي ليكون أحد مصادر منظري علم السرد غير الطبيعي، وعنه قال براين ماكهيل: (مونيكا فلودرنيك تأخذ علم السرد من قفاه معيدة من الجذر توجيه النظرية السردية، ليس لصياغتها مجموعة فئات نظرية جديدة ولكن لتتبعها المسارات الوظيفية لهذه الفئات أيضا) ومما دعت إليه فلودرنك في هذا الكتاب هو دراسة السرد من منظور معرفي يختلف عن توجهات علماء السرد الكلاسيكي مثل جيرار جينيت وميك بال وسيمور تشاتمان وستنزال من خلال البناء على الطبيعة اللغوية للسرد بوصفه عملية ديناميكية تقتضي سلسلة محفزات تولدها مجموعة من المقاطع النصية أو سلسلة من الصور، مفيدة من فكرة التطبيع التي وضعها جوناثان كولر (1975) وتعني استراتيجيات عمومية يستعملها القارئ للتوفيق بين العناصر غير المتسقة التي تخالف السائد السردي أو تخرق أعرافه النصية. أما المرجع الثاني فيتمثل في نظريتي اللامحاكاة لريتشاردسون والعوالم المستحيلة لجان ألبر، ومنهما أفاد مؤلفا كتاب (القصة الرقمية واللاطبيعية) كثيراً، فوظفا مفاهيم السرد غير الطبيعي مثل: الطبيعية وغير الطبيعية واستراتيجيات وسيناريوهات الأحداث المستحيلة، في تحليل الألعاب والأفلام وما فيها من عناصر سردية تخرق ما هو واقعي ومألوف كأحداث أو حبكة أو شخصية أو زمان ومكان.
وعرَّف المؤلفان السرد الرقمي غير الطبيعي بأنه سرد مكتوب، يقرأ على شاشة كمبيوتر بتركيب لفظي أو خطابي أو مفاهيمي خاص عبر وسيط رقمي ومن دونه يفقد السرد وظيفته الجمالية والسيميائية. إنه شكل من أشكال الخيال التجريبي يتم تحديد هيكله وشكله ومعناه من خلال سياق برمجي يتم إنتاجه واستقباله عبر نص تشعبي ومسائل أخرى رقمية موظفة داخل شبكة الويب ولغات البرمجة مثل HTML5 وQuickTime
وJavaScript ومثلما نجد أن بعض النصوص الأدبية لا تعتمد فقط على قدرات العقل الأساسية في تكوين المعنى بل وتتحداها بقوة، فكذلك نجد في الألعاب والأفلام الفديوية ظواهر سردية غير طبيعية تتأرجح أنطولوجيا بين عوالم قصصية وعوالم خارج قصصية. وتتعدد فضاءات هذا السرد ما بين الكمبيوتر المنزلي أو الأجهزة اللوحية أو الهواتف الذكية كما تتنوع أشكال ألعاب الفيديو القصصية ما بين المكتوبة والشفوية والسينمائية السمعية والبصرية والمتحركة.
وطبق المؤلفان نظريتهما في السرد الرقمي غير الطبيعي على نماذج تجريبية من ألعاب متاحة على شبكة الإنترنت، قاما بانتقائها من بين مجموعات كبيرة من النماذج الرقمية، وبحثا عما فيها من سرديات غير طبيعية تفاعلية وفيها جملة من المواقف، يواجهها المشاهد وعليه أن يؤدي دور اللاعب في لحظات معينة وقد توضع بين يديه خيارات، وعليه أن يختار منها ما يساعده في تصحيح انحراف القصة المروية شفاهيا، وما قد يتولد من هذه العملية التفاعلية من إحساس بالدهشة أو التحدي أو الاغتراب بسبب ما يحصل من خرق لقواعد السرد سواء على مستوى السارد الذي يختفي ويستعمل ضمير (أنت) مثلا أو على مستوى الشخصيات التي تظهر بهيأة غير آدمية.
واستبعد المؤلفان الكتابات الصحفية كالتقارير الوثائقية والأخبار التفاعلية واقتصرا على الافلام والالعاب مستعملين مفردة “اللعبة” كمفهوم شامل يدل على (لعبة الفيديو والألعاب الرقمية) التي ميدانها المنصات الافتراضية وما يحتاجه التفاعل معها من وجود وحدات التحكم بأجهزة الكمبيوتر الثابتة والمحمولة. وتتفاوت هذه الالعاب فمنها ما يتضمن الصوت فقط أو الصوت والصورة ومنها ما يكون كرسوم متحركة كما توظف فيها شخصية واحدة أو اثنتين أو ثلاث وبعالم ثلاثي الأبعاد باستعمال تقنيات الواقع الافتراضي مثل HTC Vive
وOculus Quest. . ومن الممكن قراءة القصة الرقمية أو تشغيلها أو تجربتها بطرق متعددة الخطوط ، وغالبًا ما ينتقي القرّاء/ اللاعبون خيارات معينة تحدد لهم طريقة المشاركة الافتراضية داخل عالم القصة عبر إتباع روابط أو الاستجابة لمتطلبات نصية أو مصورة. وبهذا الشكل يستمر القراء في بناء القصة متعددة الوسائط متفاعلين معها طوال مدة التجربة القرائية.
ولقد رسم مؤلفا كتاب (القصة الرقمية واللاطبيعية) إطارهما النظري في المقدمة ثم اتبعاها بخمسة فصول إجرائية، اهتم الفصل الأول وعنوانه (التعددية الخطية والتناقض السردي) بدراسة تمييز التناقضات داخل القصة/ الخطاب. واقترحا تمييزًا جديدًا لهذه التناقضات يقوم على فكرة تعدد الخطوط الزمانية والمكانية للسرد الرقمي. فحين لا تشير القصة الى هيكلها أو حين يختفي النص التشعبي في ألعاب الفيديو، يكون واجبا على القارئ اتخاذ قرار معين، مستنيرا بما في اللعبة من مسارات خطية أو متضادة.
ودار الفصل الثاني حول مفهوم (الاستبدال Metalepsis) وبه يكون التحول في الكينونة من صورة الى أخرى ممكنا فتتلاشى الحدود بين العالم الفعلي وعالم القصة الخيالي، مما نجده في الحكايات الخرافية. وتحققه الوسائط الرقمية باستعمال أجهزة تكنولوجية. وبها يصل القارئ إلى النص فيتفاعل بأنماط تفاعلية مختلفة مع وسائط هي عبارة عن ارتباطات تشعبية أو صور رمزية محددة.
وخصص المؤلفان الفصل الثالث لدراسة الأبعاد المكانية والزمانية المستحيلة في السرد الرقمي، بغية استكشاف الكيفية التي بها تتعامل الوسائط الرقمية مع الصيغ المستحيلة للمكان والزمان، وتأثيرات هذه الصيغ على تجربة القراء المتفاعلين مع عالم غير طبيعي وعلاقتهم به ومدى انغماسهم مع عناصره غير المحاكية أو المتضادة مع الواقع.
ويستكشف الفصل الرابع الأشكال المتطرفة من السرد الرقمي ويدرس مجموعة متنوعة من الأصوات غير الطبيعية والرواة غير الموثوق بهم في القصة الرقمية والطرق التي بها تنفذ أفكارهم داخل النص الفائق متعدد الخطوط. وجاء الفصل الأخير تحت عنوان لافت هو (إنه كل شيء عن “أنت”) وفيه فحص المؤلفان استعمال ضمير الخطاب أو الشخص الثاني في القصة الرقمية والذي أثبت فعاليته وانتشاره في كل مكان في الوسائط الرقمية السردية. سواء في أشكاله الطبيعية أو غير الطبيعية. وهذه الاخيرة هي المقصودة لانها تضع القارئ في تردد وجودي بين عالمين واقعي وافتراضي. فيأتي الضمير في شكل توجيهات تظهر للقارئ/ المشغل في رسائل الواجهة وترشده إلى ما ينبغي عليه القيام به من اجل اللعب أو لإعطائه أدلة حول نوع الأوامر النصية التي يجب إدخالها واستكشاف الطرق التي تحدث بها كلمة “أنت” في أشكال أكثر تقليدية وكيف يتم خرقها بغية إحداث تأثيرات تعليمية وانفعالية معينة في المتخيلات الرقمية المضادة للمحاكاة.
وينهي المؤلفان كتابهما بتقديم تصورات هي بمثابة إطار عمل في دراسة السرد غير الطبيعي مستقبلا، تؤشر على احتياجات دراسة علم السرد الرقمي والتجريب فيه وبحث استجابات القارئ/ اللاعب وتطوير آليات محتملة في التفاعل السردي غير الطبيعي ـ الميديوي والتي يمكن إجراؤها من خلال الوسائط الرقمية.

Facebook
LinkedIn
X
Facebook

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى