كتاب “لماذا فشلت الليبرالية الاقتصادية
عرض: ستيفن مكمولن
ترجمة: الطريق الثقافي
قليل من الكتب الأكاديمية حول النظرية السياسية لها تأثير فوري على العالم السياسي والأكاديمي مثل كتاب باتريك دينين “لماذا فشلت الليبرالية؟”. الذي نُشر في العام 2019، وقد التقطته بعض الشخصيات الرئيسية، بما في ذلك الرئيس باراك أوباما، مما أعطاه رؤية فورية. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك شعور بين المثقفين بعد انتخابات العام 2016 بأن الديمقراطية الأمريكية تواجه أزمة.
لقد كانت البيئة مهيأة لكتاب قصير ومثير للانتباه لينطلق إلى الشهرة بسرعة الصاروخ. ولكن نظرًا لأطروحته وعنوانه، ربما لم يكن المرء ليتوقع أن يصبح هذا الكتاب من أكثر الكتب مبيعًا. إن مصطلح “الليبرالية” الذي يشكل محور الكتاب، يشير إلى الليبرالية بالمعنى الغربي، أي الفلسفة السياسية والاقتصادية التي تضع الأفراد والحقوق في مركز النظرية السياسية. وبصورة فضفاضة، فإن موضوع المؤلف هو الرأسمالية الديمقراطية. وربما يكون المؤلف قد اختار اللحظة التاريخية المثالية لإخبار الأميركيين لماذا بدا وكأن كل شيء ينهار من حولهم.
إنّ أطروحة دينين تتلخص في أنّ نظام الولايات المتحدة السياسي والاقتصادي، الذي يسموه تجربة عظيمة وناجحة ماديًا، استمرت لأكثر من 250 عامًا، يواجه أزمة من صنعه. فهو لا يستطيع أن يصمد. إنّ سلسلة الإخفاقات في قلب الإيديولوجية الليبرالية أدت إلى تفكك بطيء الحركة للأساس السياسي والاقتصادي، وخاصة الثقافي للمجتمع. وحجته ـ المؤلف ـ هي أن الليبرالية تعتمد على نوع من الغطرسة العميقة. إننا نعتقد أننا قادرون على تجريد مجتمعنا وتجميعه بما يتجاوز القيود الطبيعية التي تفرضها الطبيعة والمجتمع والفضيلة. إن سياساتنا واقتصادنا تعتمد بشكل متزايد على سلوك الناس كعملاء فرديين من دون شخصية، بينما المجتمعات غارقة في المعركة الجبارة بين الحكومة والسوق. والتعليم موجه بشكل متزايد نحو المنتجين الفرديين، بعيدًا عن السعي إلى الحقيقة والفضيلة، والتكنولوجيا والصناعة تدوسان على الحدود البيئية والنفسية والبيولوجية، ومؤسساتنا تفقد الدعم الواسع النطاق لأنّها تفقد رؤية الصالح العام.
إن الحجة الشاملة لا تترك مجالاً كبيرًا للتبرير العميق الدقيق، وبالتالي فإنها ستكون محبطة لأولئك الذين يجدون أنّهم يختلفون. والواقع أن أغلب الناس سوف يجدون شيئًا يختلفون معه هنا.
إنّ كتاب دينين هذا مصمم لاستفزاز القرّاء ودفعهم لفحص الافتراضات التي نعدها في كثير من الأحيان، أمرًا مسلمًا به، ودفع الناس إلى التفكير خارج النطاق الضيق للخلافات الإيديولوجية العادية، لأن دينين يرى أننا جميعًا (الأمريكان) جزء من المشكلة.
في الفصل الأوّل، يعمل دينين على تحديد الخطوط العريضة للأيديولوجية الليبرالية، فضلاً عن نظام الفكر الذي حل محلها. تقوم الأيديولوجية الليبرالية على تغيير في الطريقة التي نفكر بها في الحريَّة. يصف دينين وجهة نظر كلاسيكية ومسيحية للحريَّة تتطلب الانضباط الذاتي وزراعة الفضيلة. وهذا بدوره يسهل الحكم الذاتي ويقاوم الطغيان. كان يُعتقد أن النظام الاجتماعي بأكمله يعتمد على الضبط النفسي. ومع ذلك، نظر المفكرون الليبراليون الأوائل إلى هذا التفكير الديني والتقليدي على أنه قمعي، واستبدلوه بـ “فردية أنثروبولوجية ومفهوم طوعي للاختيار” (ص 31).
لقد أصبحت الحريَّة تعني في المقام الأوّل غياب القيود الخارجية. تم بناء النظام المصمم حول هذه الرؤية الجديدة للحريَّة على موثوقية الميول الإنسانية الأكثر دناءة، بدلاً من الطموح إلى طبيعتنا الأفضل (ص 24). وأخيرا، استندت هذه الفلسفة السياسية الجديدة إلى شعور التنوير بأن الطبيعة، والحدود الطبيعية، كانت حواجز يجب التغلب عليها من خلال العلوم الطبيعية والاجتماعية (ص 26).
مع مرور الوقت، أصبحت مجموعة أساسية من الافتراضات الليبرالية مصل: (أ) الاستقرار من خلال الصراع والتوازن، (ب) الرفاهية باعتبارها غياب القيود، و(ج) التقدم من خلال الإتقان التكنولوجي، شائعة للغاية إلى درجة أنّ الإيديولوجية أصبحت محصنة ضد النقد. يزعم دينين أن النجاح الكامل لهذا المشروع الإيديولوجي هو جزء مما يجعله غير مستدام.
الصراع بين السوق والدولة يعزز من شمولية النظام الليبرالي
حتى عندما أدت هذه الحركة الإيديولوجية إلى انهيار المجتمعات، وانحدار المعايير الاجتماعية، وفشل النظم البيئية، فإن القائمة الواضحة للحلول هي دائمًا المزيد من الليبرالية: توسيع الاستقلال الفردي والإتقان التكنولوجي.
إن كلا من الليبراليين والدولة يتفقان أيضاً على أن السياسة عبارة عن مشروع لتنسيق الأفراد المستقلين، وكلاهما يرى نوعًا من العقلانية في قلب التفاعلات التي تشكل نظامنا الاجتماعي.
يلاحظ دينين أن السوق والدولة متكاملان إلى حد كبير. فالدولة تخلق القواعد والإطار للتبادل السوقي. والتدمير الإبداعي وتقلب السوق يخلق الحاجة إلى برامج شبكة الأمان. وعلاوة على ذلك فإن كلاً من السوق والدولة يرتبطان بالناس كأفراد، وبالتالي يزاحمان إنتاج المجتمع والمؤسسات. والنتيجة النهائية هي تحول ثقافي دام قروناً نحو مجتمع السوق الفردية والدولة من دون أي مؤسسات مستقرة وسيطة. وتمنحنا الإيديولوجية الليبرالية وسيلة لفهم الدولة والسوق، وفي النهاية تخلق الدولة والسوق مجتمعًا يشبه المجتمع الذي نظّر له المفكرون الليبراليون.
في الفصل الثالث.
صعود الليبرالية قوض الثقافة
إنّ المؤسسات والعادات التي تشكل ثقافة المنطقة تضيع في ظل العولمة التجارية في كل الأوقات والأماكن في آن واحد. إن السعي الليبرالي إلى الحريَّة والاستقلال يخلق صراعات جديدة، إذ حيث كانت الأعراف الثقافية تفرض قيودًا في الماضي، والنتيجة هي نمو الدولة التنظيمية، التي أصبحت الآن ضرورية للفصل في الصراعات. وفي النهاية، تُستبدل المسؤولية الفردية والجماعية بإخفاء الهوية الكوزموبوليتاني.
كما أنّ الجامعات التي كانت ملتزمة ذات يوم بغرس الفضائل وتوفير الحدود، أصبحت بيروقراطيات تحد فقط من أقصى درجات المتعة الطلابية خارج الفصول الدراسية.
الخشية من حتمية التكنولوجيا
يركز الفصل الرابع على تشابك المفاهيم الليبرالية للتقدم مع التطور التكنولوجي. ويشير دينين إلى أنّنا نضع ثقتنا في التكنولوجيا حتى عندما نخشى حتميتها والآثار الخطيرة التي يمكن أن تخلفها على الثقافة.
فحص المخاوف من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية
ويفحص المؤلف المخاوف الشائعة الآن بشأن وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية والانتباه، فضلاً عن نقد جاك إيلول للتكنولوجيا كقوة ثقافية مستقلة. ولكن حجته تتحول، مع ذلك، عندما يفحص المؤسسات الليبرالية باعتبارها نوعًا من التكنولوجيا الثقافية، وعاملاً يحدد اتّجاه الابتكار التكنولوجي. إنّ التكنولوجيات التي تشكل عالمنا هي في كثير من الأحيان تلك التي تعزز المشروع الليبرالي: فالتأمين، والضواحي، ووسائل الإعلام الاجتماعية كلها تجسد وتدعم الفردية في قلب الثقافة الليبرالية.
وبصفته أكاديمياً، يهتم دينين بشكل خاص بالتعليم العالي، وينتقل إلى تأثير الليبرالية على الجامعة. ويلاحظ أن دراسة النصوص الكلاسيكية ليست ذات قيمة، لأن اليسار يفضل النظرية النقدية والاستقلال الجذري. والنتيجة النهائية هي جامعة تفتقر إلى الوحدة، ولكنّها تسعى إلى تحقيق المشروعين السياسيين في آن واحد: الاستثمار بكثافة في البحث العلمي والسياسات المساواتية تحت راية برنامج الفنون الليبرالية الذي لا يقبله إلا القليلون.
يتابع الفصل السادس نقد التعليم العالي بإلقاء نظرة فاحصة على نوع ثقافة الجدارة التي أنشأناها. ويلاحظ دينين أن الإيديولوجية الليبرالية حلت محل الأرستقراطية التقليدية بأرستقراطية جدارة جديدة. وفي كل من العالم القديم والجديد، تتسم القوة الاقتصادية والسياسية والثقافية بعدم المساواة إلى حد كبير. فبينما بررت الأرستقراطية القديمة موقفها من خلال التقاليد والفضيلة، تبرر الأرستقراطية الجديدة موقفها من خلال الإنتاجية. على الرغم من أن اليسارينظر بشكل مختلف للتوزيع الجديد للثروة والسلطة، ويقترح توازنات مختلفة للتدخل الحكومي. كما أنّه يرفض الأرستقراطية الوراثية لصالح الجدارة الجديدة، وبذلك، يرفض المعايير الثقافية والالتزامات التي من شأنها أن تحول دون تماسك المجتمع.
حماية الليبرالية من الديمقراطية
في الفصل السابع، يعود دينين إلى دراسة الحكم الديمقراطي. وبعد أن قام بجولة حول التأثيرات الثقافية لليبرالية، يلاحظ أن المفكرين الليبراليين، وخاصة النخب، غالبًا ما يكونون مناهضين لليسار والديمقراطية بشكل مفاجئ. وعلى وجه الخصوص، لا يتم تبني عملية صنع القرار الديمقراطي إلا عندما تكون النتيجة لصالح المسار الليبرالي الأوسع. لاحظ أنّ الإطار الأصلي للدستور في الغرب افترض أن الليبرالية بحاجة دائمة إلى الحماية من الديمقراطية، وبالتالي تم إنشاء نظام (ديمقراطي) مُتحكم فيه.