التشكيلي سلام جبار
جواد الزيدي
تتداخل مجموعة المرجعيات والمؤثرات في تجربة الفنان (سلام جبار) (الجيولوجيا، وفلسفة الفن، والدرس الأكاديمي، والمعرفة النقدية، وخطواته الواثقة خلف جيل من أساتذة الفن). هذا كله لم يكن بسيطاً أًو بالمصادفة، بل هو تأسيس تمتد بينه خطوط الحياة السرية ونسيجها الذي تتشكل عنده الأشياء والمواهب والمخاضات التي تتسم بها الشخصية الذاتية والتجربة.
مخاضات ليست وليدة رغبة عابرة أو نزعة تتصف بالذرائعية أو النفعية، بل هي خلاصة لسنوات العمر وجوهره أو كينونته، وإخلاص للرسم بوصفه صيغة حياة لا يُمكن الحياد عنها إقتراناً بالموقف الفكري والجمالي. ومن هذا يستند في مجمل تجربته الفنية الى التعامل مع الفكرة القابعة في الضمير الجمعي التي يتردد صداها في عديد الموضوعات ضمن سياقها التداولي سواء كانت المضامين جزءاً من المسكوت عنه الذي يتناغم مع النسق المضمر، أو هو تناولات جمالية تذهب الى مزاوجة خطابات مختلفة عند استدراج الصورة الرمزية في نسق موحد يؤدي الى الهجنة من خلال التعبير عنها في خطاب فني مكتمل الإشتراطات الجمالية والدلالية في تصيّره.
إن المبرررات الفكرية التي قادته الى خلاصاته الأخيرة مرت بسيرورة زمنية إستكمل فيها قدرته على الرسم الأكاديمي، بوصفه عتبة أولى تُفضي الى تحولات أُخرى يتم فيها تغريب تلك الأشياء وإستحضار مضامينها الكامنة في ذلك المضمر للتعبير عنها، إنه يحمل محمولاته ويعبر بها صوب ضفاف الجمال الخلاق ليسجل إختلافه في المتناولات الأُسلوبية التي ينتزعها من جذوة الروح والعقل معاً، إنطلاقاً من الحوادث المشاعة بطريقة المرويات والحكايا التي تمثلها الثقافة الشفاهية، بيد أن هذا النزوع يحتاج الى زوايا نظر يُمكن من خلالها إستثمار هذه الحكايا وتحويلها الى نصوص بصرية يستدرك من خلالها التلقي الأوسع بإنفتاح مفهومها على مقامات متباينة في هذا التلقي، حتى تجد صداها الذي يكبر يوماً ما ليكون وثيقة تستهدف جزءاً من تاريخ الوطن، وتصوير قصص الأبطال المجهولين في اللحظات المضيئة لحياتنا، لتكون بمثابة سيرة وطن وليس سيرة أشخاص عندما تقترن بالصورة الرمزية الكبرى لحاضنة إجتماعية وفكرية متعينة. لم تتمثل بهذه بالصورة فقط، وإنما يسوقها الحدث الجوهري الذي يصنع التحولات الكبرى في تاريخ الوطن، ويؤسس لمثابات جديدة من خلال الخط النضالي الملتزم بقضايا الوطن والناس.
(سلام جبار) عابر من ضفاف الهور حاملاً مشاهداته ومروياته الخاصة، والخارج من رماد الأسئلة الوجودية الكبرى بمنطلقاتها السياسية والإجتماعية التي إصطبغت بها حياته وحياتنا ولا يمكن الفكاك منها، بل إن الصيغة الأهم هي التماهي معها والتعبير عنها بما يُمكن من وسائل مختلفة، وإيجاد بدائل ومعادل موضوعي لتلك المحمولات ليضعها في سياقها الصحيح، على الرغم من التاريخ المزيف الذي يكتبه الأقوياء بإرادة الأنظمة للنيل منها والتشفي بجراحاتها وإرتكاساتها. إنه كائن مفكر سواء كان في مقام التنظير، أو فاعلاً في إنتاج الصورة التي إنشغل بها طويلاً في بحثه عن (الصورة المثالية) في الأشكال المجردة. ينتمي الى فضاء الرسم بكامل طاقته الروحية وتجسيداته البصرية، حيث ما زال يعتمد أُسلوبية الرسم وتقنياته التي مكثت طويلاً في ذاكرتنا، ألوان الزيت وقماش اللوحة وفرشاته ومخيلته هي مسانده الحقيقية في ذلك الأنتاج إتساقاً مع صورة المثال التي ينتجها عندما يرتكن الى الواقع المعيش، أو حين يرتد الى المخيلة. سلطة المخيلة التي قادته الى خطاب بصري مفارق حين تقصد مفهوم التهجين بإجتلابه أشكال إسطورية لها حضورها في الذاكرة الجمعية العراقية وهي تجتمع بشخوصه المأخوذة من الواقع من أجل التعبير عن فكرته المختلفة على الرغم من إعتماده سياقات الرسم المألوفة، بيد أن تعبيرية اللون والشكل وإنتقائيته لمجموعة ألوان هو ما يُشيد بها خطابه، (الأخضر المتدرج الى الأوكر، مع الأحمر) أو ما تقتضيه وسائله التعبيرية.
إنه يتحرك بصرياً بفعل مجساته الفكرية المقترنة بالحتميات التاريخية التي تفرضها تراكمات البناء الإجتماعي، ويجترح الموضوعات التي تشغله. فلكل مرحلة خطابها المتأتي من تلك الهواجس والقلق الإبداعي الذي يسكنه ويوجهه. فأعمال مثل (لا عزاء للمضحين، وتسجيل دخول، وغير لائق للخدمة المسلحة، وقراءة في دفتر الخدمة العسكرية) هي سلسلة من التحولات التي تبدأ من إنعتاق الحياة المدنية، مروراً بالجموع المساقة للحرب، وصولاً الى النتائج المأساوية التي أقلها هي الإصابات الخطيرة وإنتهاءً بصورة عجلة التاكسي المعروفة بألوانها وهيئتها الخارجية وهي تحمل نعوش الضحايا. إنها أعمال متقنة على صعيد الصنعة الجمالية، بيد أنها تحتشد بالألم الناتج عن مفردات صورته. فالجندي الملفوف برباط الضمادات حين يتحول الى شاخص يقع على الأرض هي إشارة الى مقاربة الفقدان والتضحية من أجل الوطن الذي جسده على هيئة إمرأة جميلة تشبر حقول القمح. وفي تسجيل دخول يستحضر جموع الناس التي تتدافع من أجل مغادرة الوطن لدخول وطن جديد عبر السلم الخلفي، بوصفه إشارة أثيرة لدية تنفتح على عديد المعاني والتأويلات الممكنة.
لقد لجأ في السنوات الأخيرة الى النبش في الراهن العراقي المسكوت عنه، وإستطاع من خلاله الإنطلاق الى مثابات جمالية كانت قائمة على التداول الشفاهي، وعلى الرغم من تداولها الواسع بين الأوساط الثقافية والشعبية، إلاّ أن الإنموذج البصري ظل غائباً ويعقد صلاته ومقارباته مع التصور الذهني فقط. وهذه المحاولة إجتلبت ذلك القصي والذهني الى مساحة التداول البصري حين يجترح خطابه إنطلاقاً من حوادث تشكل محوراً في الأنساق المضمرة والمحظورة في التداول أنذاك، وأعاد إليها الحياة من خلال نبشه الدائم في الحكايا الشعبية ورصدها بعين العارف، إذ عاد الى حادثة إسقاط الجنسية العراقية عن الشاعر الكبير (الجواهري) وحاول التماهي مع هذه الفكرة برسم صورة الشاعر بأزياءه المألوفة لدى الجميع، وهو يفتش في الأوراق القديمة عن هويته الشخصية وسط هذا الركام الذي سورته صورة الوطن أو خارطته الخارجية.
وكجزء من إلقاء الضوء على حوادث تمس الذات العراقية يعود الى حادثة (قطار الموت). القطار المكيدة الذي حملت عرباته مئات المناضلين ممن يحملون فكراً تنويرياً والإلقاء بهم في محارق الموت الجماعي. وعلى الرغم من مشاعية الفكرة داخل الضمير الجمعي، إلاّ أن صياغتها على هيئة خطاب مرئي يجعل من ديمومتها قائمة، لأن اللوحة أصبحت وثيقة تدون ما هو خارج الشفاهي، وتقاوم فرضية الزمن وفكرة المحو في جميع حالاته، إذ رسم الناجين من حرائق الموت وهم عراة ليقوموا بتضميد جراح الآخرين جسدهم في صورة بيضاء وسط عتمة الأشياء والحرائق والمصير المجهول، إلاّ أن أقماراً وشموساً تعلو تلك اللوحة، كأنها رمزية للضوء المنبثق من خبايا الأرواح أو القدرية التي حالت دون ذلك الفقدان، وما زال بعض ركاب تلك العربات يعيشون بيننا الآن. الجدار الأزرق الغامق ممثلاً بخلفية اللوحة يحمل صور بعض الملهمين الذين يستنير بهم هؤلاء الذي يجتمعون على تضميد جراح بعضهم وقد بقيت صورهم شاخصة على الجدران، أما البنية الكلية للوحة المرسومة، فأنها تحمل مستويات عدة في تشييدها وتصيرها الجمالي، كونها تجسد قاعات السجون التي تستضيف هؤلاء على الدوام.
سلطة المخيلة قادته إلى خطاب بصري مفارق حين تقصد مفهوم التهجين
يستهويه الشعر الملتزم المعبر عن القضايا الكبرى للإنسانية، فيلتحم مع أشعار (الجواهري، وسعدي يوسف، ومظفر النواب، وأميل سيوران) وغيرهم. ولأن قصائد النواب أكثر إحتداماً وتعالقاً مع الفضاء العراقي فأنه يهرع إليها بقوة، محاولاً تجسيد بعض قصائدة وتحويلها الى وجود شيئي مثل قصائد (الريل وحمد، مضايف هيل) وغيرها، إذ يستحضر في قصيدة (الريل وحمد) غنائيتها أو الإشارات الواردة في النص الشعري (السنابل، القطا، حمد، قطار الليل) وغيرها من المرموزات التي تحمل أكثر من دلالة مؤدية الى المعنى، فيصور الشاعر النواب مع مجموعة شخوص يظهر عليهم الوقار والهيبة على يسار اللوحة، وعلى يمين اللوحة مجموعة نساء في لحظة السفر على عربة القطار أو الريل، والجميع ينصت الى صوته عندما ينشد أشعاره وينثر أوراقه في فضاء اللوحة، بينما (طيور القطا) تحلق أمام الجميع. إن رحلة الريل عبر أهوار العراق ليست سفرة سياحية، بل هي رحلات الإختباء إزاء خيبات الإنتظار في الكثير منها. وكانت مركزية العمل الفني تتمثل بتلك المرأة وهي تروي قصة عشقها عندما يمر القطار بقريتها المهاجرة التي لم يتبقَ منها غير الأطلال التي تنبعث منها رائحة القهوة والهيل ممثلة بخلفية اللوحة في إرتداد صوري الى الماضي، ليخلق هذا التضايف بين أزمنته المتعددة والمتداخلة، محاولاً إلتقاطها، وترجمة ما ذهب إليه النص الشعري. بوصف هذه المرويات جزءاً مما تتفق عليه مجمل الذاكرة العراقية.
إستطاع الفنان (سلام جبار) من دون غيره أن يغوص في أعماق تلك الذاكرة ويستخرج من شريطها الصوري ما يسجل إثارته على مستوى التقنية، وطرائق التعبير، والمضمون الكامن في اللامرئي. ففي قصيدة (مضايف هيل) للشاعر النواب التي أصبحت نشيداً وطنياً لكل الثائرين والمحتجين، يرسم لوحته التي يوثقها بإسم (الى ذكرى صاحب صويحب) وهو يستحضر نبوءة الشاعر (النواب) والشهيد (صويحب) حيث تقوم القصيدة بإشهارها، حين يؤولها بروح معاصرة في ضوء الوجوه والأزياء وتعلو اللوحة صورة النواب نفسه، إنها وجع العراقيين وآلامهم، وكأن النائحة تعيد تلك الصورة للذاكرة لكي لا تغادرها في مجموعة مقاطع مؤثرة في القصيدة (ميلن لا تنكطن كحل فوك الدم) واستمراراً الى اللحظة التي تُجيب فيها القصيدة على لسان المرأة (جرح صويحب بعطابة ما يلتم)، لأن الثورة الدائمة ضد الظلم هي من يلثم جراح هذا الوطن.
إنه منتمٍ للخطاب الجمعي وراصداً لتحولاته، ففي لوحته (الطوفان) يستحضر صورة الصراع القائم على مغانم السلطة عبر التاريخ، يمثل السلطة بالكرسي الأحمر دلالة الشهوة والدم في الوقت نفسه، بينما تتزاحم الجموع على المنضدة التي صيّرها على هيئة سفينة محطمة تغرق في مستنقع مائي وسط هذا الإحتدام والتشابك، تنتشر الأوراق على الأرض والفضاء المحيط، وهناك سلماً خلف اللوحة إشارة الى الصعود، بينما يقف النواب وسط هذه الجموع المحتجة والمنتفضة. وليس بعيداً عن هذا تستحضر لوحته (الظهيرة الحمراء)، ذلك الأفق المصبوغ بلون الدم وسط ضحايا يتوسدون الأرض، ولم يتبق إلاّ حصان وحيد ينظر الى أجساد الضحايا وهي مقاربات بين القديم والحديث، بين ما يحدث داخل الوطن من موت جماعي بفعل العجلات المفخخة وبين صورة واقعة الطف التي يستعير منها مشهد الإستشهاد والحصان في إشارة الى إستمرار المأساة.