فيلم “أشياء صغيرة مثل هذه”
وليم جيدلينج
ترجمة: نادية بوراس
يستكشف فيلم المخرج تيم ميلانتس، المقتبس من رواية الكاتبة الإيرلندية كلير كيغان “أشياء صغيرة مثل هذه”، بهدوء لكن بعمق، أهوال واستغلال النساء من قبل الكنيسة الكاثوليكية في أيرلندا أبان فترة الثمانينيات، وهي أحداث لم يُسلط عليها الضوء، وظلت طي الكتمان حتى جاء هذا الفيلم.
تبدأ القصة عندما يكتشف بيل (الممثل سيليان مورفي) امرأة شابة محتجزة في مستودع الفحم في الدير، فيكون ذلك بابًا لاكتشاف أهوال ما يُسمى في ذلك الدير بـ“مغاسل المجدلية”.
هنا، تعمل النساء الحوامل غير المتزوجات ـ اللواتي يُطلق عليهن “النساء الساقطات” ـ مقابل (الرعاية)من قبل الكنيسة. حيث يُفصلنّ عن أطفالهن الذين غالبًا ما يتم بيعهم لعائلات أخرى.
مع وجود ما يقدر بنحو 30 ألف إلى 60 ألف امرأة تكدّ قسرًا في هذه المغاسل، واكتشاف 155 قبرًا من دون علامات، فمن المذهل أن ندرك أنّ آخر هذه المؤسسات لم تُغلق إلا في العام 1996.
يطارد “بيل” ماضيه كابن لأم عزباء، ويصارع حيرته النفسية، فيما إذا كان سيترك ذلك الماضي المظلم يلاحقه أم يستمع إلى نصيحة زوجته بتجاهله: “إلى أين يقودنا التفكير؟ كل ما يفعله التفكير هو إحباطك”.
يواجه “بيل” ظاهرة الرشاوى والتهديدات المبطنة من الأم الرئيسة في الدير، التي تحذره من أنّه قد يُحرم بناته من الالتحاق بالمدرسة التي تديرها الكنيسة المحلية. كما تنصحه صاحبة الحانة بالتركيز على أسرته.
يشير الفيلم بشكل قاطع إلى الفقر باعتباره محور قوة الكنيسة. فنحن نرى ونلمس هذا الفقر طوال الفيلم، من خلال مجموعة من المشاهد المعبرة، مثل مشهد الطفل الذي يلتقيه
“بيل” مصادفة في البرية بعيدًا عن المدينة وهو يجمع العصي (ليلاعب بها كلبه)، لكن يتضح لاحقًا أنه يبادلها كحطب للكنسية مقابل حبّة بطاطا واحدة وشربة حليب من وعاء الكلب.
يبدو الحوار والموسيقى التصويرية للفيلم خافتان نسبيًا، الأمر الذي يجعل الصور المرئية، كما في مشهد الطفل جامع الحطب، حاضرة بقوة وقادرة بشكل قاطع على توصيل رسائلها.
مقارنة بدوره في فيلم صانع القنبلة الذريَّة “أوبنهايمر”، يبدو تجسيد الممثل الكبير سيليان مورفي لشخصية “بيل” وكأنه خيالي أو شبحي غير محسوس. وفي الواقع، ينطبق هذا الأمر على أغلب الممثلين الذين لعبوا الأدوار الرئيسية في الفيلم، كشخصية الأم الكبيرة في الدير، التي تمكنت بنجاح من تجسيد اعتمالاتها النفسية نتيجة الظروف القاتمة والقمعية المحيطة بها.
من خلال مشاهدة الاضطرابات الداخلية التي يعيشها “بيل”، يشعر المشاهد بقبضة الكنيسة الحديدية وتسلطها على الناس وقوتها واسعة النطاق، إلى درجة أنّها تبدو وكأنها تتحكم في كل شيء.
على الرغم من أن الكنيسة كمؤسسة، في حالة تراجع ملحوظ اليوم، إلّا أنّ ندوب هذه الفترة لا تزال قائمة، ولا ينبغي الاستهانة بالقوة التي لا تزال تتمتع بها، فالصراع الذي يواجهه “بيل”، المتجسد في النضال ضد نظام يعزز الفقر والقمع، ما زال مستمرًا.
فيلم “شياء صغيرة مثل هذه” هو فيلم درامي تاريخي عُرض في العام 2024، من إخراج تيم ميلانتس، اقتبسه كاتب السيناريو إندا والش من رواية بالأسم نفسه للكاتبة كلير كيغان، صدرت في العام 2021.
الفيلم من بطولة الممثل المعروف سيليان مورفي (الذي عمل أيضًا كمنتج) وإيلين والش وميشيل فيرلي وإميلي واتسون وكلير دون وهيلين بيهان.
وهو إنتاج دولي مشترك بين أيرلندا وبلجيكا، وتركز حبكته على “مغاسل المجدلية” سيئة السمعة في أيرلندا.
عُرض الفيلم لأوّل مرّة عالميًا في مهرجان برلين السينمائي الدولي الرابع والسبعين في 15 شباط/ فبراير 2024، وعُرض في أيرلندا والمملكة المتحدة في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. وتلقى ردود فعل وآراء إيجابية من النقاد.
يبدو تاجر الفحم الإيرلندي “بيل” أمام كاميرا مدير التصوير فرانك فان دن إيدن ذات اللقطات المقربة، والألم الذي يسيل من عينيه، كأن ثقل العالم كله، أو على الأقل ثقل أيرلندا الكاثوليكية منتصف الثمانينات، جاثم بثقله على كتفيه. فثمة خوف من الانزلاق إلى الفقر مع زوجته وأطفاله الخمسة، ولكن بشكل خاص خوف من الألم الذي يراه في عيون الأطفال الصغار، وهم يكدون في البرد لجمع الحطب، بينما تقوم الفتيات الشابات بالعمل القسري في مغسلة ماجدالينا، أو تحبسهن الراهبات في مخازن الفحم. وعلى الرغم من أن عيد الميلاد أصبح قريبًا مع تساقط ندف الثلج، إلّا أنّ الجو، في نظر فورلونج، أكثر كآبة من أن يبعث الأمل في النفوس.
ولعل أمر المشاعر المكتومة والرثاء المتجسد في الدموع، يختلف عنه في الرواية القصيرة المتواضعة التي كتبتها كلير كيغان (مؤلفة فيلم الفتاة الهادئة The Quiet Girl الذي أخرجه البلجيكي تيم ميلانتس أيضًا بتحريض من الممثل سيليان ميرفي نفسه).
إنّ شخصية “بيل” الخاصة في الفيلم تبدو كما لو كانت كتلة من التعاطف المتجسد، تغذيها الوفاة المبكرة لأمّه العازبة التي كانت ضحية الدير نفسه، ولكنّه قبل كل شيء، دائم التفاؤل، مدفوعًا بقلبه الكبير. فهو يتحرك عندما يواجه اليأس وعدم اليقين لدى فتاة منفصلة عن طفلها حديث الولادة. أنّ الشجاعة والتعاطف هما خيط مشترك في قصة عيد الميلاد تلك ذات المحتوى الديكنزي العالي.
ويبدو أنّ المخرج البلجيكي تيم ميلانتس يتفوق في السينما الغامرة الموغلة بالشجن الإنساني. ذلك لأنّ “أشياءه صغيرة مثل هذه” هو رحلة قمعية عبر عالم خانق من خلال نظرة رجل معذب ومصاب بصدمة نفسية. وفي الوقت نفسه دخيل على عالم مواز يتجسد في مجتمع الكنيسة.
إنّنا كمشاهدين، نشعر بالرعب الذي يصيب الكنيسة الكاثوليكية بالشلل، مع راهبات الدير المحلي اللاتي يدسسنّ أنوفهن في كل شيء (الصناعة والتعليم والرعاية الصحية والأخلاق)، وبالتالي يحافظن على قبضتهن الحديدية مطبقة على القرية.
حتى هدايا عيد الميلاد تكون بمثابة أموال ورشى تُدفع لشراء الصمت، بينما يبدو السكان المحليون إلى حد ما أشبه بوضع الرهائن، أما التهديد المبطن وغير المعلن للأم الرئيسة ماري، الذي تنقله بشكل واضح وخبيث الراهبة الشابة إميلي واتسون.
لم يحدد تيم ميلانتس وكاتب السيناريو إندا والش جميع الشخصيات الثانوية، وأبقيا آلية الاستغلال والإساءة التي تحدث خلف الأبواب المغلقة غامضة. لكنّها تركز بشكل كامل على الحزن والخسارة كموضوعين أساسيين يغمراننا بقسوة في عصر مارغريت تاتشر (الحديدية الباردة جدًا).
وبالنظر لهذا الرؤية النفقية العميقة، تتركنا سينما ميلانتس وفق انطباع عاطفي طاغ، لننجرف بعيدًا مع الماضي المؤلم الذي لا يزال يطاردنا.
القصة بين الواقع والخيال
أخوات “المغسلة المجدلية” قصة حقيقية مبنية على شهادات تضمنها الفيلم الوثائقي البريطاني “الجنس في مناخ بارد” 1998 الذي سبق أن حصل على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي.
القصة تتضمن وقائع وتفاصيل
مرعبة حدثت في أديرة راهبات المجدلية الأيرلنديات، التي راح ضحيته أكثر من 30 ألف فتاة حتى العام 1996. وبعد عقود من الزمن، انتهت معاناة الفتيات الإيرلنديات المتهمات بشكل من أشكال الفجور في هذه المؤسسات البائسة. بعد أن تحملنّ بصمت وصررنّ على أسنانهن لسنوات طويلة من العمل الشاق في غسيل الملابس، والصلاة الصامتة والإذلال العاطفي على أيدي الراهبات المتوترات.
ولعل المحور الرئيس في الأحداث الواقعية هو القصص الحقيقة لأربع فتيات حدثت في العام 1964، ثلاث منهن كن مسجونات في دير المجدلية في دبلن، الذي كان يُدار بوطئة ثقيلة من قبل الأخت بريدجيت التي تخلط بين الصرامة الإلهية والزيف البشري. حيث “لا يمكن التسامح مع التناقض، والشفقة معدومة”. وحيث لا يوجد أي معنى للهروب: العالم الخارجي، بما في ذلك أسر الفتيات، يعتبرهن “خاطئات” وبحاجة إلى “الغفران”.
الفتيات هنّ: مارغريت التي استُدرجت من قبل ابن عمها واغتُصبت، وعندما اكتشف الأهل الأمر أخبروا الكنيسة وجاء الكاهن واصطحبها إلى الدير ليبدأوا بغسل روحها الآثمة من أجل “المغفرة”.
وبرناديت التي كانت تعيش في دار للأيتام، وتعاني العزلة والإذلال، فتقرر الهرب مع أحد الأولاد، لتُتهم بممارسة الفحشاء.
وروز التي ولدت طفلاً من دون زواج، فيقرر والدلها والكاهن أخذ الطفل منها وإرساله إلى أحد الملاجئ البعيدة، ومن ثم أخذها إلى الدير للسبب نفسه.
تدخل الفتيات الثلاث ملجأ الأخوات المجدليلات الذي تديره الأخت بريدجيت وعدد من الراهبات الأخريات، وهناك يخضعنّ للنظام الصارم والممارسات غير الإنسانية مقابل الإيواء وطلب المغفرة.
أما الفتاة الرابعة فهي كريسبينا، الفتاة التي أنجبت طفلًا مجهول الأب أضطرت اختها لتبنيه ونُقلت هي إلى الدير للتطهر.
وفي المحصلة، وبالصدفة، يكتشف شقيق مارغريت، إحدى الفتيات الأربع، الأمر، فيحضر رسالة من الكاهن الأكبر يأمر فيها بالإفراج الفوري عن مارغريت. وبهذه الطريقة تكشف الأخيرة للرأي العام والصحافة الوقائع الظلامية والألم والإستغلال الذي تعرضن له الفتيات في الدير، فتقرر الكنيسة إطلاق سراحهن جميعًا وإغلاق الدير المشئوم.
لقد كانت مارغريت في غاية السعادة، لكنّها أيضًا غاضبة بعض الشيء من شقيقها، لعدم حضوره قبل أربع سنوات وانقاذ روحها.