سليم الجزائري
في العام ١٩٥٥ سافر وفد من الفنانين التشيكوسلوفاك متعدد الاختصاصات الى باريس. وشمل جدول زياراته قضاء امسية في ناد ليلي شهير. تضمنت الامسية مشاهد عرائسية من تقديم العرائسي الفرنسي الطليعي الشهير “جورج لافاي”، ترافقه زميلته “يْفَسْ جولي”، بتقنيات المسرح الأسود، الذي لم يسبق أن عرفوه أو خبروه. “صدموا تماما!!” بتلك التقنيات الباهرة، التي خلبت البابهم.
عاد الوفد الى براغ، وكان من بين اعضاءه “يرجي سرنسه”، المخرج والموسيقي والتشكيلي والعرائسي التشيكي، الذي أطلق حملة هدفت الى تأسيس “المسرح الأسود” في العاصمة براغ. ولم تفلح اتصالاته بالجهات الثقافية التشيكوسلوفاكية في تأمين الموافقة والدعم اللازمين الا في العام ١٩٦١. وحينها شهد النور اول “مسرح أسود” في تشيكوسلوفاكيا وفي العالم. ولم تمر فترة طويلة على انطلاقته حتى صار على كل لسان، ليس في تشيكوسلوفاكيا وحدها، بل وفي معظم بلدان العالم.
ــ ــ ــ
في الولايات المتحدة والدول الغربية يسمون المسرح الأسود، باسم “بلاك لايت تياتر” /مسرح الضوء الأسود/، لاعتماده بشكل أساسي على استعمال الإضاءة “فوق البنفسجية”. لكن جذور هذا المسرح تمتد الى الصين ما قبل التأريخ. حيث شاعت استعمالاته عند صناع الغرائب والاعاجيب وفي خيم السيرك وفي مشاهد السحر والشعوذة. كان يسمى حينها باسم “الكابينة السوداء”، حيث مشاهد “اختفاء وظهور الأشخاص والاشياء الفجائي” أو مشاهد “قطع الرؤوس” أو ” تحليق المواد في الفضاء” تكتم الانفاس. وكان من بين مشاهد الكابينة السوداء الشائعة ـ على سبيل المثال ـ مشهد رأس امرأة مفصول عن جسدها، يبعد عنه بحوالي المتر. كلاهما ينتصب مواجها الجمهور نابضا بالحياة. الرأس يغني مرحا، والجسد راقصا واليدان تصفقان أو تعزفان لحن الاغنية. وعلى ايقاعات الاغنية يقترب الرأس من الجسد تدريجيا حتى يلتحم به. وبعد استقراره على الجسد، نتبين أن لاوجود على خشبة المسرح الا لامرأة واحدة، ترقص وتغني لتستكمل فقرتها حتى النهاية.
ـــ ــــ ـــ
انتقل المسرح الأسود من الصين الى اليابان في القرن الثامن عشر. واستخدمت تقنياته ـ ولا زالت ـ في مسرح العرائس الياباني الشهير “بونراكو”. /وهو من المسارح العرائسية اليابانية التقليدية، يبلغ حجم العروسة الواحدة فيه حوالي المتر. وتصاحب عروضه موسيقى يابانية تقليدية/.
في العام ١٩٠٨ أخرج “ستانسلافسكي” مسرحية “الطائر الأزرق” للكاتب البلجيكي “موريس ماترلنك”. وهي مسرحية فيها الكثير من مشاهد أنسنه الأشياء المنزلية. فعهد بهذه المهمة آنذاك للعرائسي الشاب “سيرجي اوبرازتسوف”، الذي كتب لاحقا في كتابه “مهنتي”، كيف انجز ما عهد به اليه ستانسلافسكي، قائلا: “تذكرون بالتأكيد أن المسرحية تتضمن العديد من المواقف السحرية. أواني منزلية تدب فيها الحياة وفانوس يسقط وتشب منه النار، فتخرج من النار فتاة تجسد دور “الضوء”. هذه الأشياء السحرية حققها “اشخاص سود” يرتدون ثيابا من المخمل الأسود، مع طاقية من نفس القماش تغطي الرأس والرقبة، فيما عدا ثقبين للعينين، وقفازات سود وجوارب سوداء كذلك. كافة الفقرات السحرية تم تنفيذها في شبه ظلام، بأشخاص يرتدون السواد أمام ستارة من المخمل الأسود”.
بهذه الاسطر القليلة يلخص “اوبرازتسوف” تقنية المسرح الأسود، فيما عدا الإشارة الى الإضاءة فوق البنفسجية. وهي نفس الإضاءة التي يستخدمها رجال البوليس في تحليل مسارح الجريمة والكشف عن آثار الأصابع، أو الصرافين في الكشف عن أوراق النقد المزيفة.
ـــ ـــ ـــ
يرتبط المسرح الأسود بالظلام. كل ما فيه أسود بأسود. أرضية المسرح وسقفه، جدرانه وستائره كلها سوداء. وتغلف كافة لوازمه وقطع ديكوره بقماش اسود. والممثل يتشح بالسواد أيضا ولا يسمح للضوء بالدخول فيما عدا الاشعة “فوق البنفسجية”. فالضوء العادي أيا كان مصدره، يكشف مكونات المنظر ويفسد متعة المشاهدة.
والمتفرج لا يرى غير ما يظهر له في عمق الظلام، اكان متحركا أو ثابتا، وعلى أن يكون فاتح اللون أو فسفوريا بشكل خاص. ذلك أن الألوان الفاتحة والفسفورية وحدها تستقبل الاشعة من المصباح فوق البنفسجي فتتوهج. في حين تزداد الألوان الأخرى قتامة وتختفي.
وبهذا، فإن المسرح الأسود يتيح للمخرج رؤى تشكيلية، ذات ابعاد جمالية و تعبيرية. وتتحول فيه الكتل المعلقة في الفضاء المفتوح، في لحظة ما الى خطوط والخطوط في حبال والحبال في دوائر .. الخ. وهذه معطيات تقدم للمخرج إمكانات كبيرة في تشكيل تفاصيل المشهد صوريا ونقل المعاني عبر الصورة واللون، بمرافقة الموسيقى والمؤثرات الصوتية المطلوبة.
وهذا المسرح في العموم هو مسرح صامت، غير لفظي، يقوم على الفكاهة والمرح. وعروضه كالرؤى أو كالأحلام، زاخرة بالألوان، تؤنسن الملحقات، وتتحرك على ايقاعات الموسيقى والرقص. وهي مسلية خفيفة الظل تناسب الكبار والصغار وكافة المستويات الاجتماعية والثقافية. لكنها وهي تلبي رغبات المتفرج بلغة التشكيل والايحاء فإنها تتطلب اعدادا وتحضيرا طويلين، وتفترض مشاركة العديد من الاختصاصات عالية التكلفة، وليست سهلة المنال.
المــمــثــل:
الممثل في هذا المسرح لا يظهر ابدا. غير أن اختفاءه لا يكون خلف الكواليس مثلا. بل لأنه يغرق في ظلمة تحيط به، متشحا بالسواد من قمة رأسه حتى قدميه. فيما عدا فتحتين صغيرتين تسمحان له بالرؤية وربما ثالثة بالتنفس، على أن تكون ثلاثتها مغطاة بنسيج اسود مشبك، تأمينا في التستر على ما قد يظهر من خلالها.. وعادة ما يكون القماش من المخمل الأسود، يفتقد لكل اشكال اللمعان. فاللمعان يعكس الضوء والضوء يفسد الصورة.
أمّا حركة الممثل فتتزامن ايقاعيا مع الموسيقى والكلام المسجل والمؤثر الصوتي. ولهذا يعتبر الممثلين الصامتين والراقصين والاكروباتيكيين افضل ما يناسب العمل في هذا النوع من المسارح.
وتكتب نصوص المسرح الأسود بهيئة سيناريو أو “ليبرتو” /نص الاوبرا أو الباليه/. مع الهيمنة المطلقة لتوصيف الحركة. امّا اذا اقتضت الضرورة وجود حوار ما، فينبغي أن يأتي مراعيا البساطة والسلاسة.
كل من خبر المسرح الأسود جيدا يعرف أنه، وان كان صنفا فريدا من نوعه، الا أنّه يعاني من تراجع في دراميته. وربما يكون هذا هو سبب قلة انتشاره. صحيح أنه جاذب، وحتى خالب للب في تقنياته، الا أن موضوعاته اقرب الى فقرات “الكابريه”. تهدف الى التسلية والترفيه، وتعتمد الادهاش والامتاع. ومن دونها لا حضور حقيقي مضمون للجمهور. إن الصورة واللون والخط والكتلة ..الخ، /تغليب الشكل والتقنيات على الفحوى/عجزت للآن عن تقديم عرض “عميق” بأبعاد فلسفية. ورغم المساعي الكثيرة في هذا الميدان، الا أنها تبقى في اطار المحاولات، لم تفصح بعد عن تيار او نهج فني حقيقي في ميدان المسرح أو الدراما.
واليوم هناك أربعة مسارح “سوداء” دائمة في براغ، متخصصة بعروض المسرح الأسود، هي: المسرح الأسود /الام/ الذي يحمل اسم المؤسس “يرجي سرنسه”، ومسرح بلاك لايت براغ، ومسرح “واو”، ومسرح الصورة. وكلها تقدم “فرجة” لافتة للسواح الذين لا ينقطعون عن براغ على مدار العام، وللفضوليين من المتفرجين التشيك، التواقين لمشاهدة جديد المسرح الأسود.