عبد المنعم الأعسم
إنّ تقنين الدولة لفروض الطاعة والتنكيل بالخارجين عليها عمره أكثر من ثلاثة الاف سنة (اخضاع الكنعانيين والبدو) وذلك قبل الدخول في عصور العقوبات الجماعية وسيلة لفرض الطاعة
الطاعة (باختصار) وسيلة القوى التي تتحكم بالجماعة وتُفكر بالنيابة عنها، وتجعل من تلك الوسيلة قوانين ومدونات ردع وحملات اخضاع، ومن ثم، لتصبح من خلال عمليات تاريخية ثقافة عامة تتخذ احيانا شكل ضرورات لسيادة الدولة (المؤسسة. الجماعة السياسية. الزعامة) وتطورت تطبيقاتها في العصر الحديث الى ما نسميه بالشمولية، او (الابائية) غير ان الإكراه استمر على خلفيات الطاعة والشمولية معا. في قصة لزكريا تامر عنوانها “النمور في اليوم العاشر” يتحدث عن نمر وضع أمامه التبن ليأكله، ويرفض النمر طبعاً، ثم تمر عشرة أيام من التعذيب والإذلال والتجويع وقلع الأنياب وقص المخالب، وفي اليوم العاشر يتقدم النمر ويأكل تبناً بعد أن لم يبق فيه شيء من النمر.
لن استطرد في موضوع الطاعة وبُعدها الديني، وجدليات حدود طاعة المؤمن لولي الامر (حاكم يطيع الله ورعية تطيع الحاكم) وكما لخصها ابن الجوزي بقوله “مشقّة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها”.. مكتفيا بقول الامام علي بهذا الصدد: “احذروا سلطانا يقول من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، وقد كذب”.
الطاعة في المفهوم المدرسي فعل أوامر أو تعليمات متابعة من شخص في السلطة، عادة دون التشكيك فيها. وتذهب بعض الدراسات الشكلية الى اعتبار الطاعة سمة إيجابية، لأنها تسمح بالتشغيل السلس للمؤسسات والشركات والمجموعات الاجتماعية، من دون النظر كفاية الى ما تؤدي له هذه الطاعة الميكانيكية من تعصيب عيون الطائعين ولجم ابداعهم، واخصائهم، وعبوديتهم. تقول نوال السعداوي: “الطاعة ثفافة العبيد. الانسان الحر لا يطيع”
على ان تقنين الدولة لفروض الطاعة والتنكيل بالخارجين عليها عمره أكثر من ثلاثة الاف سنة (اخضاع الكنعانيين والبدو) وذلك قبل الدخول في عصور العقوبات الجماعية وسيلة لفرض الطاعة. وقد أمدّت الاكتشافات الأثريةُ البشريةَ بمعطيات مفصّلة عن البيئة السياسية للشرق القديم، من حيث السلالات والدول والحروب، والمعادلة التي يمكن رصدها من خلال ذلك تتمثل في ان “كل تمرد جماعي وراؤه سياسات أكراه وطاعة زجرية” وبقيت هذه المعادلة صحيحة، بل مطلقة الصحة الى عصرنا الحاضر، وستستمر مستقبلا رديف دوامة الانشقاقات الاثنية والطبقية والثقافية، في وقت حلت الشمولية كصيغة “ابوية” محسنة للطاعة، حيث يرفض فيها الشمولي المتسلط (زعيم او قيادة) النقد، ولا يقبل حوارا لا يشترط حماية رأيه واستمرار هيمنته وإملاءاته، اما العلوم النفسية فقد سلطت الضوء على اخطار “الطاعة العمياء” التي تجعل من الممارسات الشائنة بوصفها اعمالا تقتضيها مصالح الامة (الجماعة. الفئة السياسة. الزعامة) وحيث يلحق الطائع الاذى بجمهور كبير يشكل ركنا من اركان الجماعة التي يُزعم خدمتها، وقد أظهرت الدراسات أن اكثر الناس الذين يتعايشون مع الشمولية الاستبدادية يكونون عادة ضمن مجموعة من الوسط القريب من المستبد، حيث يتوفر لهم الشعور بإخفاء الهوية ووهم البراءة من المسؤولية الشخصية.
على ان الشمولية جرى تداولها حصرا في السياسة ونظمها واحزابها وما يتفرع عن ذلك من اباطيل “الرجل المنقذ” او احيانا “الدكتاتور العادل” وقد بدأت، اول مرة في ميدان التعليم على يد وزير التربية في الحكومة الفاشية الايطالية الفيلسوف جيوفاني جنتيلي بالقول “أنّ على المدرسة أن تسمح للتلميذ بأنّ يربّي ذاته بذاته، تماماً مثلما هي الدولة الفاشية” واسطرادا الى الدعوة لـ “تحقيق الإنضباط من خلال الحرية الكاملة” والانضابط هنا لا يعدو غير ثقافة الطاعة بتحويل الطفل المنضبط الى متعبد في وثنية الدولة وبوصفه (حين يكبر) مُنتجا للثقافة او جنديا في ادارة الافكار والقيم والذائقة التي تصله من النخب العيا، وبعد أسابيع قليلة على تكليفه بوزارة التربية في إيطاليا الفاشيّة، وجد جنتيلي ضالته، وهو منهمك بالإعداد لورشة إخصاء النظام التربوي الشاملة بالطبيبة وصاحبة المنهج التربوي الذي يحمل اسمها والذائع الصيت إلى يومنا هذا، ماريا مونتيسوري، والدعوة الى تأمين الظروف لكي ينمو كل طفل بخواص مختلفة عن الأخرى، من دون تنمية حيويته النقدية، وقدمت هذه النظرية تسهيلات للشمولية الثقافية المبكرة.
والحال فان الشمولية بدأت كمفهومٍ عن الدولة التي تحاول فرض سلطتها على المجتمع، وكافة مناحي الحياة الاقتصادية والثقافية والتعليمية، واخلاقيات المواطنين، وتطور المفهوم في مطلع القرن الماضي على يد السياسي النازي “كارل شميت” والفاشيين الايطاليين، قبل ان تجد بعض تطبيقاته في مفاصل الدولة الاشتراكية الاولى، وتتاثر به حركة الفكر والثقافة والسياسة اليسارية، في نطاقات متفاوتة، واستُخدم بمثابة سلاح هجوم في الحرب الباردة، فيما بقيت اثار تلك المرحلة شاخصة في ما لا حصر له من الامثلة والتجارب والتطبيقات، بل وفي محاولات اعادة الشمولية الى نُظم الدولة القومية والدينية والعسكرية، على قاعدة “لا حدود ولا مكان لا يحق للدولة التدخل فيه” كما كان يحض المفكر الشمولي الفاشستي جينتيلي.
في الثقافة المعاصرة تظهرالشمولية، كنمط ثقافي مغلق في الغالب على نسق محدد من المعارف، تحدد طبيعته وأهدافه سلطة سياسية في دولة شمولية، او مرجعية حزبية، وفقاً لقيم معيارية مسبقة الصنع تفرضها أيديولوجيا شعاريه وبراغماتية وحتى أسطورية، لاهوتية بغية التأثير على عقول وسلوك وقيم أفراد المجتمع وتحركيهم كأحجار شطرنج، مع احاطة الابداعات الفكرية والفنية بالشبهات والزجر والتنكل.